من دواعي العجب أن نسمع مثقفاً عصرياً يطلق عبارات رنانة من فمه كدخان التبغ، دون أن يعرف معناها.. ومن ذلك إطلاق بعض أنصاف المثقفين لكلمة "سوفسطائية" باعتبارها - كما يظنون - الجهل والثرثرة وإدمان المغالطات الكلامية دون منطق أو سند. هذه الكلمة بالذات تورط الكثيرون في التعامل معها، حتى أصبحت كالخطأ الشائع الذي يسيرعلى الأفواه بإجماع الخاصة والعامة، في حين أن "السوفسطائية" بريئة تماماً من هذه المزاعم التي ألصقت بها.. فالسوفسطائيون كما يؤكد "ممدوح عدوان" في كتابه المهم "دفاعاً عن الجنون" هم مجموعة من الفلاسفة أرادوا الخروج بالفلسفة من أبراج الأساتذة وتلامذتهم الأرستقراطيين إلى الشارع العام..أي أنهم أرادوا وضع العلم بين أيدي العامة، بعد أن كان وقفاً على وجهاء الفلاسفة وتلامذتهم، لذلك فقد كانت حركتهم جريئة، وعملت على إثراء قيم فكرية جديدة تعتمد على جدلية إثبات الشيء وعكسه والتي تهدف إلى إقناع الناس بضرورة عدم القبول بأية فكرة على أنها حقيقة ثابتة، وأن كل فكرة قابلة للنقاش وخاضعة لأكثر من احتمال، وكان هذا الاتجاه يمثل وقتها تمرداً في عصر الحقائق الثابتة، قاومه بشدة الفلاسفة الذين يدرسون هذه الحقائق لتلامذتهم. على أن الأخطر في المسألة كلها كما يؤكد "ممدوح عدوان" هو ذلك الظلم الكبير الذي لحق بالسوفسطائيين فقد سخر منهم "أفلاطون" سخرية مُرة.. ولسوء حظ العلم والبشرية فإن فلسفة أفلاطون وحوارياته الساخرة منهم هي كل ما وصلنا، في حين لم يصلنا من وجهات نظر هؤلاء الفلاسفة السوفسطائيين شيئاً، وإنما فقط الآراء والمقولات التي كان يحملها أفلاطون عنهم.. وهي آراء في الواقع لا يمكن أن نحكم من خلالها على فلسفة السوفسطائيين، لأنها من وجهة نظر أفلاطونية بحتة. إن السوفسطائيين لم يكونوا محظوظين بالفعل لأن آراءهم الفلسفية تمت مصادرتها في حينها.. ولسوء حظهم أيضاً أن من قام بترويج آرائهم ومقولاتهم هو "أفلاطون" نفسه الذي كان يكن لهم عداء صريحاً، مما يجعله بالضرورة ليس أميناً في نقله لتلك الآراء والمقولات، ومما يجعله أيضاً أكثر حماساً في إيصالها لنا بشكل يدعو للشك والريبة، وهذا ما حدث بالفعل حيث ما زلنا حتى يومنا هذا نكاد نجزم بأن السوفسطائيين ما هم إلا مشعوذون يجيدون ترويج الدجل والخرافات والخزعبلات. المؤكد أن أفلاطون لن يعود من جديد للظهور في أواخر هذا القرن كي ينصف هؤلاء السوفسطائيين ويريح ضميره.. والمؤكد أن الفلاسفة المعاصرين لو اجتمعوا الآن على رد الظلم الذي وقع على هؤلاء الفلاسفة لما استطاعوا أن يغيروا من صورتهم المقلوبة في شيء، والمؤكد أن "السمعة السيئة" عن السوفسطائيين ستظل تطاردهم حتى النهاية.. ولكن المؤكد أيضاً، وهذا هو المؤسف حقاً أن السوفسطائيين لن يكونوا أول ولا آخر من لحق بهم الظلم في هذا العالم الذي يتوارث الأحكام الجاهزة والمسبقة عن فكر الآخرين وفلسفتهم.. ولا يهم أخيراً إن كان "كلامي" هذا سيدخلني في منظومة السوفسطائية أم لا؟!.