معركة الكلام على ضفاف بحيرة البجع جنيف : يوسف عبد المنان تنتظر النخب اليوم في مدن البلاد وفي المنافي ومعسكرات اللاجئين، والجالسون في أرصفة انتظار سقوط النظام، والمهتمون بشأن السياسة في بلادنا بغض النظر عن الضفة التي بها يجلسون، ينتظرون ويترقبون ما يجري هنا في جنيف من معركة بلا سلاح يخوضها وفد السودان ليس في مواجهة المبعوث المستقل "مشهود بدرين" حينما يقف أمام حشود من الوفود الدولية ويقدم تقريراً شفاهياً عن أوضاع حقوق الإنسان في السودان فحسب، فللمعركة أطراف أخرى تتخذ من قضية حقوق الإنسان ذريعة لجر بلادنا إلى معركة في مجلس الأمن الدولي إن تمنع السودان في التعاون مع مجلس حقوق الإنسان ولا يختلف الأمريكان في مواقفهم عن كتلة الاتحاد الأوروبي.. وفي المبنى الرمادي اللون ذي الأبواب الزجاجية التي يقف على حراستها جنود غلاظ أشداء، وفي الطابق الأرضي، وعند الساعة الحادية عشرة من صباح اليوم الثلاثاء يطل "مشهود بدرين" إطلالته الأخيرة قبل أن ينصرف إلى سبيله ويعود إلى جامعة لندن محاضراً ومتابعاً لصحة زوجته المريضة شفاها الله، يطل ليلقي تقرير الوداع وسط حشد من السودانيين بمختلف توجهاتهم السياسية، بعضهم مدافع عن بلاده وآخر مطالب بإنزال أشد العقوبات عليها. { يوم طويل في جنيف كان يوم أمس (الاثنين) طويلاً جداً في عاصمة العالم الجديد، حيث جرت مفاوضات بين الوفد السوداني والبعثة الأمريكية في جنيف، بصورة سريعة بعيدا عن أجهزة الاعلام فُرض عليها تعتيم من كلا الطرفين خشية تعثرها في اللحظات الأخيرة لتوافُق البعثة الأمريكية مع الوفد السوداني الذي يقوده الآن وزير العدل، والحوار الذي جرى أمس مع الأمريكان لا يمثل بداية تفاهم مع واشنطن، لكنه امتداد لسلسلة لقاءات عديدة جرت في جنيف حول قضايا حقوق الإنسان وقضية الاتجار بالبشر، حيث مثلت إجازة البرلمان مؤخراً لقانون مكافحة الاتجار بالبشر نقطة إيجابية في كتاب السودان الخارجي، ومشاورات الأمس الأثنين بين الوفد السوداني والأمريكان والاتحاد الأوروبي كان طابعها تشذيب لغة البيان الذي سيصدر الخميس القادم متضمناً الإبقاء على السودان تحت بند الإجراءات الخاصة العاشر، بعد أن خابت مساعي ومخططات جهات عديدة لإعادة السودان إلى البند الرابع الإجراءات الخاصة.. لكن ليس كل ما يتمناه السودان يدركه، فخروجه من (البند الرابع) وبقاؤه في (العاشر) هو انتصار للدبلوماسية الرسمية وللوفد الكبير المفاوض في جنيف الذي ضم خيرة الحقوقيين في وزارة العدل وضباط كبار في جهاز الأمن الوطني وضابط من القوات المسلحة، ومثل إشراك هذه الأجهزة تطوراً مهماً في سياق جعل قضية حقوق الإنسان أكثر شمولاً، ولا يستحق ما تحقق نصب سرادق الأفراح في بلد سكنت مفاصلها الأتراح والمحن، لأن مجرد أن تخضع دولة ما للإجراءات الخاصة تحت وصاية خبير مستقل بغض النظر عن التفويض الذي بموجبه ابتعث الخبير، فإن تلك الدولة تعدّ أوضاعها استثنائية ولن تحصل على قروض ومساعدات، ولن تستفيد من حزمة من الحوافز التشجيعية. { "دوسة" و"بدرين" قبل أن يلقي الخبير الذي سيغادر موقعه "مشهود بدرين" خطابه الأخير ويدع السودان وشأنه، التقى وزير العدل "محمد بشارة دوسة" لمدة قاربت الساعة أمس في جنيف، وتبادل الوزير والبروفيسور النيجيري بعض كلمات التلاطف الدبلوماسية، وربما بعض العتاب من الوزير السوداني الذي حينما بعث إليه "بدرين" بنسخه من التقرير أبدى كثيراً من الملاحظات من حيث صحة بعض الوقائع كالإشارة إلى اعتقال السيد "الصادق المهدي" وكريمته د. "مريم"، و"إبراهيم الشيخ" باعتبار أن هؤلاء قد تم إطلاق سراحهم، وطالب دوسة من الخبير بدرين الإشارة إلى ذلك صراحة، وكذلك تعديل الفقرة الخاصة بطرد السودان لمنظمة الصليب الأحمر الدولي وإغفال الاتفاق الأخير الذي وقعته الخارجية السودانية وبموجب ذلك عاد الصليب الأحمر لمزاولة نشاطه، من جديد وما ورد في التقرير بأن أحداث سبتمبر لم تتخذ الحكومة إزاءها أي إجراءات والتقرير النهائي لم يقدم أحداً للمحاكمة.. والنقاط التي أثارها الوزير مع "بدرين" ربما لا تغير من الصيغة التي كتبت وأودعت مضابط مجلس حقوق الإنسان، لكن تم إرفاق ملاحظات السودان على التقرير ولو تمتع المبعوث بأمانة العلماء وتحري المسلم الحق لأخذ على الأقل ببعض من حزمة ما أثاره "دوسة" عن التقرير، ويبقى المكتوب كوثائق غير قابل للتعديل لكن التقرير الشفاهي للمبعوث هو الأكثر رسوخاً في مخيلة الحضور اليوم. { نقاط في تقرير "بدرين" ربما خيل لكثيرين أن كل تقرير المبعوث "بدرين" هو ترصد متعمد لأخطاء الحكومة التي بدورها تنظر إلى التقرير بعين السخط التي لا تبدي لها إلا المساويا، لكن التقرير أشاد بتوجه الحكومة نحو إدراج قضية حقوق الإنسان في المناهج التعليمية والتعاون البناء مع بعثة ال(يوناميد)، وتوجه الحكومة نحو التوافق مع المعارضة من خلال الحوار الوطني ورفع القيود عن الإعلام ورفع الرقابة عن الصحف.. لكن النقاط السالبة قد طغت على الإيجابية مثل اعتقال المعارضين واستخدام العنف المفرط في أحداث سبتمبر دون تقديم مرتكبي الجرائم للمحاكمات، وهناك قضايا اهتم بها التقرير ربما لم يسمع بها أحد في الداخل مثل أحداث (خور أبشي) ووقائع عن تعذيب بعض الطلاب بعد أحداث سبتمبر. { المعارضة في ميدان جنيف كان للمعارضة السودانية وجود في جنيف، حيث ظهر "يوسف الكودة" في مسرح جنيف، وطالب جهراً بفرض عقوبات على السودان حتى يتم إسقاط النظام، وهاجم الناشط في مجال حقوق الإنسان "محمد جلال هاشم" الحكومة وقال إنها لا تستحق البقاء في كرسي الحكم بعد فصل الجنوب، وأمس فاجأنا د. "علي الحاج" نائب الأمين العام للمؤتمر الشعبي وحضر ندوة المجموعة الوطنية عن الأوضاع في غزة، وجلس طويلاً مع بعض القيادات وأطلق تصريحات صحافية بدا فيها يائساً ومحبطاً من نتائج ومخرجات الحوار الوطني بقوله: (لقد فجعت شخصياً في سلحفائية مسار الحوار الوطني). وأضاف "الحاج": (كنت أعتقد أن الحوار الوطني سيكون سودانياً خالصاً، لكن يبدو لي أن فشل الجميع حكومة وحركات مسلحة وأحزاب معارضة في الاتفاق على كيفية حل مشاكل السودان جعل العالم يتدخل مرة أخرى في الحوار الوطني). وقال د. "علي الحاج" إن الانتكاسات التي يتعرض لها الحوار الوطني لا تبشر بخير. { القرار المرتقب طبقاً لمتابعات (المجهر) من جنيف وإفادات حصلت عليها من جهات عديدة وثمرة لقاءات بمراقبين وخبراء في ملف حقوق الإنسان، وكثمرة لجهود مضنية بذلها المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان وبعثة السودان في جنيف، فإن القرار المتوقع صدوره الجمعة القادمة هو أن يتم الإبقاء على السودان في البند العاشر ولن يتقهقر للبند الرابع في كل الأحوال، لكن المبعوث القادم بصلاحيات أقرب للبند الرابع.. وحتى أمس الاثنين لم يتم الاتفاق بشأن المبعوث المستقل بعد، حيث تكاثفت أسماء المرشحين لخلافة "بدرين" من مغربي إلى مالطي وباكستاني وأفغاني، هولندي وبرازيلي، ولن يتم تعيين مبعوث دون توافق مع السودان.