هل بيان المكتب القيادي بداية لتقديم التنازلات (المجهر) تكشف عن ضغوط أمريكية وبريطانية على الخرطوم للقبول بالإغاثة عابرة الحدود حديث (السبت) يوسف عبد المنان هل كان متوقعاً صعود المهندس "إبراهيم محمود حامد" لموقع الرجل الأول في حزب المؤتمر الوطني؟؟ حتى عهد قريب، وقد أزاح "البشير"، "الترابي" عن واجهة الحزب وتنظيم الحركة الإسلامية، ولكنه احتفظ بتراتيبية التنظيم بأن أبقى على الرجل الثاني "علي عثمان محمد طه" في موقع المسؤول الأول، وجاء بدكتور "نافع علي نافع" وأسند إليه شؤون الحزب.. حتى هبت عاصفة التغيير والتجديد نزولاً لمطالب قيادات حزب المؤتمر الوطني الشبابية.. ليترجل "علي عثمان محمد طه" من منصب النائب الأول ومعه انصرف جيل بكامله عن المشهد التنفيذي لتغيب أسماء مثل "الشريف بدر" و"كمال عبد اللطيف" ود."عيسى بشري" و"أسامة عبد الله" ويصعد البروفيسور "إبراهيم غندور" من اتحاد عمال السودان إلى منصب الرجل الأول في الحزب في خطوة مفاجئة لكثيرين كانوا ينتظرون (الصعود). و"غندور" لم يمكث طويلاً في المنصب وغادر للخارجية التي هي أقرب لمزاجه السياسي المعتدل، ويفاجئ الرئيس "البشير" الأقربين منه باختيار المهندس "إبراهيم محمود حامد" القادم من خارج جغرافية السودان النيلي.. والأقرب وجدانياً إلى ما يعرف بالهامش السياسي والجغرافي.. وقد حافظ "إبراهيم محمود حامد" على وجوه في السلطة منذ النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي من (محافظ) في دارفور إلى والٍ وهي أعلى أسقف يتوق إليه (أبناء الولايات) من جيل "إبراهيم محمود".. لكنه كسر تلك القاعدة وصعد لمنصب وزير الداخلية في واحدة من مفاجآت الرئيس "البشير" الذي يباغت به قيادات حزبه.. كيف تسند وزارة ذات طبيعة أمنية وعسكرية لشخصية سياسية مفتوحة الذهن.. لم تنشأ في (أضابير) أجهزة المعلومات الحزبية.. لكن مسيرة الرجل الذي لا يزال يحتفظ ب(الصديري) الشرقاوي.. وبساطة الريف.. في وزارة الداخلية، قد حققت نجاحات جعلته يستقر في النصب كأطول وزراء الإنقاذ عمراً في تلك الفترة.. وواجه "محمود" فترة زمنية صعبة هي الفترة الانتقالية حيث الصراع السياسي العنيف بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية، بعد أن كان بروفيسور "الزبير بشير طه" أن يشعل الحرب في الخرطوم بين الشريكين.. ومن الداخلية تم تخفيض وظيفته لوزير زراعة وهي تخصصه المهني، ولكن لم يلبس أن غادر الزراعة إلى القصر الرئاسي مساعداً للرئيس ومسؤولاً أول عن حزب المؤتمر الوطني وسط تململ من البعض وسعي من آخرين لاحتواء الرجل.. والسيطرة عليه.. ليمشي "محمود" على جمر الحزب والدولة رغم البريق وهيبة الموقع.. وأضواء السلطة.. احتفظ بهدوئه السياسي وبعده عن المعارك الكلامية مع المنافسين والخصوم من المتمردين وأحزاب المعارضة.. بل رحبت الحركة الشعبية في أول مهمة ل"إبراهيم محمود" كرئيس لفريق التفاوض الحكومي به وأبدى "ياسر عرمان" رغبة شخصية في التعرف على "محمود" عن قرب من خلال لقاء يجمعهما لوحدهما، إلا أن "إبراهيم محمود" سفه وتجاهل رغبة "ياسر عرمان". وقال الجنرال "أحمد العمدة" (الحكومة جاءت لنا بشخصية كان مفترض أن تكون معنا.. لأنه مهمش مثلنا).. وخاض "إبراهيم محمود" غمار المفاوضات مع المتمردين ومن خلفهم كان الحوار الحقيقي مع الأوروبيين والأمريكان.. الذين كثفوا ضغوطهم على الخرطوم بعد انهيار مفاوضات "أديس أبابا" الأخيرة لإرغامهما على قبول دخول الإغاثة من خارج الحدود.. إلا أن "إبراهيم محمود" بدا عنيداً ورافضاً التزحزح شبراً واحداً عن ثوابت وخطوط حمراء رسمها الرئيس للوفد المفاوض لا إغاثة من الخارج.. ولا قسمة سلطة مع حاملي السلاح.. ولا جيشان في دولة واحدة.. ولا حكم ذاتي أو تقرير مصير.. ولا شراكة ثنائية مع الحركة الشعبية، وبذلك أصبحت مهمة الوفد الحكومي أكثر وضوحاً وعبر عنها مساعد الرئيس في لقائه مساء (الثلاثاء) مع الصحافيين والكُتاب حتى منتصف الليل. ومهندس الزراعة يرسم خطوطاً متقاطعة عن ما يحدث في البلاد في مقبل الأيام، وتجد "إبراهيم محمود" الذي يقود حزباً أغلب قادته صامتين لا يتحدثون خوفاً من تبعات ذلة اللسان (يضطر) كثيراً للخروج عن منهجه الشخصي بالهجوم على المعارضة بلغة لا تبلغ حدة "نافع علي نافع" ولا نبرات "علي عثمان" الأصولية.. ولا فلسفة وغموض عبارات "غازي صلاح الدين".. لكنها لغة أقرب للواقعية السياسية.. وشخصية "إبراهيم محمود" البسيطة والصارمة أحياناً.. تمثل تماماً رجال المرحلة الحالية حيث اختفت من الساحة وفي كل الأحزاب نجوم المنابر.. والندوات والجماهير.. وأصبح أغلب قادة الأحزاب من (الواقعيين المعبرين) عن المرحلة.. الحزب الشيوعي سكرتيره العام من طبقة الموظفين.. والحزب الاتحادي الديمقراطي غاب عنه آخر الرجال المتحدثين "الشريف زين العابدين الهندي".. وحزب الأمة أصبح هو "الصادق المهدي" إن غاب غاب الحزب وإن تحدث فلغته أصابها الوهن، والإسلاميون أصبحوا تنظيميين وأمنيين. وأقعدت السن آخر الخطباء "مهدي إبراهيم".. وانصرف "حسين خوجلي" للتنقيب عن التراث في السودان النيلي.. وبات "ابن عمر محمد أحمد" حائراً بين أم بادر وبري الدرايسة.. ومن هنا تبدأ مهمة مساعد الرئيس الصعبة في كيف (ينفذ) توجيهات القيادة وهو يفاوض وعيون أعضاء وفده ترمق من كانوا من قبل في مهمة تماثل مهمتهم أين هم الآن.. والتفاوض نيابة عن حكومة السودان كالسير في حافة الهاوية.. وقد سقط أغلب الذين وقعوا على اتفاقيات بعضها حقن الدماء وبعضها (أهدر) وبدد المال سقطوا في جب النسيان العميق.. وأصبحوا من المغضوب عليهم.. في الوقت الذي تنهال الضغوط الكثيفة على (المفاوضين) من أجل تقديم التنازلات، فإن "إبراهيم محمود" وفريقه المفاوض يواجه (تربصاً) من الداخل.. وحينما يقول للصحافيين إن للولايات المتحدة أربعة شروط مقابل رفع العقوبات المفروضة على السودان بالمقابل طرح السودان أربعة مطالب.. (أي هذه بتلك) ومن المناهج الفاعلة والواقعية في التفاوض مسألة القوائم هنا.. وهناك.. وشروط الولاياتالمتحدة التي ذكرها مساعد الرئيس هي وقف الحرب في المنطقتين ودارفور لإحلال السلام في جنوب السودان ومكافحة الإرهاب ومكافحة الهجرة غير الشرعية.. المساعد لم يشأ الإفصاح عن مطالب السودان الأربعة.. لكن بالنظر لمطالب الولاياتالمتحدة فإن وقف الحرب هي مسؤولية الحكومة ولا ينبغي أن تنتظر من الآخرين مكافئة على ذلك، لأن الحرب تهدد وحدة ما تبقى من السودان وتمزق الجبهة الداخلية والمساعد قدم (تبريراً) بأن كل دول المنطقة بها حركات وجماعات تحمل السلاح والسودان ليس استثناءً لوحده.. وتستطيع الحكومة من خلال العمليات العسكرية القضاء على خطر الجماعات المسلحة وتحجيمها.. ومن ثم التعايش معها !! فهل مثل هذه الرؤية موضوعية.. وتستطيع الحلول العسكرية أن تقضي لما ذهب إليه المساعد أي السيطرة على تلك الحركات المسلحة مثل الوضع الراهن في دارفور، حيث نجحت الحكومة في القضاء على خطر الحركات المسلحة وأصبحت الحركات المسلحة جماعات تحترف القتال بمقابل مادي.. كما هو حال حركة "مناوي" في ليبيا والعدل والمساواة في دولة الجنوب. ولكن الحركة الشعبية قطاع الشمال حالة (تختلف) عن هؤلاء لأنها تسند ظهرها لمجموعة عرقية كالنوبة في جبال النوبة والأنقسنا في النيل الأزرق والقضاء عليها في طبيعة معقدة من شأنه فتق جروح في جسد الوطن قد لا تندمل قريباً.. والتضييق الشديد على تلك الحركة قد يدفعها لخوض حرب غير نظامية في المدن تستفيد من حالة السخط والضيق الاقتصادي الشديد الذي تعيشه القطاعات العريضة من المجتمع.. لذلك يمثل الحل السياسي الطريق الأكثر (أمناً). بالطبع التسوية ليست مسؤولية الحكومة وحدها.. أما الشروط الأمريكية الأخرى فإن مكافحة الإرهاب من القضايا التي تعاونت فيها الحكومة مع "واشنطون" وكما لم تتعاون حكومة أخرى في المنطقة منذ أحداث الحادث عشر من سبتمبر وحتى اليوم، والولاياتالمتحدة أكثر قناعة بخلو السودان من المتطرفين، وقد أوصد أبوابه في وجه الإسلاميين ونأى بنفسه عن محور إيران وأتباعها.. وأصبح جزءاً من التحالف العربي الذي يحارب إيران في اليمن.. وتبقى القضية التي دفع فيها السودان مالاً أكثر من الأوروبيين هي قضية محاربة الهجرة التي يتم وصفها (أحياناً) بالهجرة غير الشرعية ويطلق عليها صفة (الاتجار بالبشر)، والسودان دولة عبور للفقراء من أفريقيا الشرقية.. وتسعى البلدان الأوروبية لخدمة مجانية من السودان ولا تصرف مبالغ مالية لتنمية بلدان الهجرة.. في الوقت الذي تدعم فيه الحركات المسلحة التي تزرع الفوضى وعدم الاستقرار. وأخيراً بدأت الحكومة أكثر واقعية وهي تطالب الأوروبيين بتقديم مساعدات لها (طائرات) وأجهزة (رادارات) لرصد تحركات عصابات الاتجار بالبشر عبر الحدود.. أما المطلب الخاص بالمساهمة في حل قضية جنوب السودان فالولاياتالمتحدةالأمريكية هي من تجاهلت الخرطوم في الحلول واعتمدت على بلدان أخرى مثل كينيا ويوغندا.. وثمة ارتباط وثيق جداً بين الأمن في المنطقتين وجنوب السودان. { الضغوط الأمريكية والبريطانية قبل انهيار جولة المفاوضات الأخيرة مارست الدول الغربية ضغوطاً على الحركات المسلحة للتوقيع على اتفاق خارطة الطريق.. ونجحت الدول الغربية في إرغام الحركة الشعبية التي جاءت للمفاوضات (مجبرة) على تعاطي (المكروه) وتبدى غضب "مالك عقار" في سلوكه الشخصي حينما رفض حتى مصافحة أعضاء وفد الحكومة.. ووصلت المفاوضات إلى طريق مسدود بسبب رفض الحكومة لوصول المساعدات (20%) من المساعدات من إثيوبيا.. وقد بدأت الحركة الشعبية تحت وطأة الضغوط تقديم التنازلات بأن تخلت عن أطروحة توصيل الغذاء من "نيروبي" و"جوبا".. وتمسكت فقط بعشرة في المائة عن طريق مطار (أصوصا) في إثيوبيا وهو من المطارات الصغيرة التي لا تسع طائرات مثل البوينج والبوشن.. وقدمت الحكومة الإثيوبية مغريات للحكومة لتوافق على نسبة ال(10%) والتي تم تحديدها بالمواد غير الغذائية.. مثل الأدوية والأمصال وتقديم الخدمات العلاجية للحالات الطارئة وإغراءات إثيوبية بأن تخضع كل الشحنات لفحص من قبل السلطات السودانية ولا تسمح إثيوبيا بنقل أية (كرتونة) قبل موافقة وإمضاء (الرقباء) السودانيين، إلا أن "إبراهيم محمود" تمسك بالمبدأ دون التفاصيل ورفض أي حديث عن (10%) أو حتى (1%). وفي حديثه للصحافيين يوم (الثلاثاء) الماضي بدا ساخراً من الدكتور "فتح الرحمن القاضي" المفوض العام الأسبق، وقال في لهجة (تهكمية) قرأت مقالاً لشخص قيل إنه كان مفوضاً للعون الإنساني يطالبنا بأن نبصم على ما يريده "ياسر عرمان".. ولكن ذلك لن يحدث مهما كان، وقد اعترف الشخص الذي قيل إنه كان مفوضاً بأن الإغاثة التي تأتي من الخارج تمثل انتهاكاً للسيادة الوطنية فلماذا (يريدنا) أن نفعل ما كانت تقوم به الحكومة.. ومقال "فتح الرحمن القاضي" وجد احتفاءً من قبل الحركة الشعبية ربما لهذا السبب وغيره تهكم منه مساعد الرئيس والذي (أنكر) حتى معرفته ب"فتح الرحمن القاضي" وشكك فيما إذا كان فعلاً تولى من قبل منصب مفوض العون الإنسان.. وهذه من الحالات النادرة التي يجد "محمود" نفسه في موضع الهجوم على الذين (ينتاشون) حزبه وحكومته بالرماح. وفي عهود مضت كان الراحل "يسين عمر الإمام" والراحل "موسى حسين ضرار" (يلعبون) (بلوتيكا).. يغردون خارج سرب الحكومة وحزبها ولكن الآن أصبح حزب المؤتمر الوطني جميع منسوبيه من (الحمائم الزاجلة) وحتى لغة د."نافع" الأصولية التي تشبه لغة الإمام "الشاطبي" افتقدها الحزب الذي يواجه الآن اختبارات صعبة في الأيام القادمة. وبعد انقضاء جولة المفاوضات كانت حسابات الوفد الحكومي أن الضغوط على المتمردين من شأنها حملهم على التنازل أكثر خاصة في مسألة الإغاثة العابرة إلا أن ذلك لم يحدث. تكاثفت الضغوط الأمريكية التي صاحبتها أيضاً إغراءات برفع العقوبات من خلال مفاوضات "نيويورك" التي انتهت في وقت متأخر من صباح (الجمعة) بعد المباحثات التي أجراها المبعوث الأمريكي "دونالد بوث" في الخرطوم ومباحثات "نيكولاس هيوم" المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة للسودان وجنوب السودان، وجاء من بعده المبعوث البريطاني.. وكل هؤلاء طالبوا الحكومة بالتنازل عن شروطها فيما يتعلق بمسألة الإغاثة العابرة من دولة إثيوبيا. وفي صباح (الخميس) بثت وكالة (كموون) شبه الحكومية خبراً يقول (المكتب القيادي للمؤتمر الوطني برئاسة "البشير" يعلن استعداده التوقيع على اتفاق وقف العدائيات في جولة مفاوضات "أديس أبابا" القادمة). وإذا كانت الحكومة قد التزمت مراراً بالتوقيع على اتفاق وقف العدائيات ما الذي جعل المؤتمر الوطني وبرئاسة "البشير" يعلن هذا الموقف، وهل هي بداية تقديم تنازلات للغرب الذي تبدلت وجهة الضغوط من الحركات المسلحة إلى الحكومة، أم أن الموقف الذي أعلنه مساعد الرئيس يوم (الثلاثاء) الماضي بأن لا قبول للإغاثة من خارج الحدود حفاظاً على سيادة البلاد وصوناً لكرامتها.. وقال "محمود" إن الإغاثة هي التي أدت لتطاول الحرب الأولى حينما حصلت الحركة الشعبية على كل ما تحتاج من سلاح وعتاد من خلال عمليات شريان الحياة مما أدى في نهاية المطاف لانفصال جنوب السودان واستمرار الحرب حتى اليوم.. وإذا ما وقعت خلال الأسبوعين المقبلين الحكومة والحركة الشعبية ومتمردو دارفور على اتفاق بوقف العدائيات، فإن تأجيل موعد الجمعية العمومية من العاشر من أكتوبر القادم لفترة زمنية تتيح لحاملي السلاح ترتيب أوراقهم والمشاركة في المؤتمر الذي ظلت المعارضة تنادي به منذ سنوات عديدة، وتطلق عليه (مؤتمر دستوري)، بينما تطلق عليه الحكومة (مؤتمر الحوار الوطني).. وتبقى كل الاحتمالات مفتوحة وفي الأيام القادمات تتكشف تفاصيل ما وراء المسرح ومن على خشبته.