كلما ذهبت إلى بلد عربي أو جالست أشقاء عرب وغير عرب وفور معرفتهم بهويتي السودانية يسألون بشغف عن المشير "عبد الرحمن سوار الذهب" آخرها قبل (10) أيام بالجزائر.. تحمل الرجل بكل مسؤولية وجسارة مهمة أعباء السلطة إبان انتفاضة ابريل 1985م.. لم يعرف التاريخ المعاصر موقفاً مثل ذلك الموقف الذي تنازل فيه "سوار الذهب" عن السلطة ولم يقبل البقاء فيها يوماً واحداً حتى بعد رجاءات الأحزاب التي توفرت لها سُلطة على طبق من ذهب.. حتى بعد ذلك كان بوسعه ممارسة أدوار سياسية لكنه لا يحب الخوض في السياسة وورعه يسلبه الجسارة على اجترار مرحلة تاريخية مهمة من التطور السياسي في السودان.. ولو قلنا إنه معجز عصره في التجرد والنزاهة لما قلنا شططاً فهو صاحب طبع نافذ وخاطر عامر وقريحة ثاقبة وكياسة نادرة.. لقد حاولت قبل أكثر من (12) سنة إجراء حوار صحفي معه في إحدى زيارته للدوحة وما إن أُبلغت بموافقته حتى ذهبت راكضاً بمعية المصور وكنت أنظر للحوار من زاوية غير التي أبدى موافقته على أساسها، فما إن التمس بحسه السياسي العالي ما كنت أضمره من خوض في عالم السياسة حتى رأيت ثغره يفتر عن ابتسامة تنمو عن تواضع وأدب جم، طالبا أن يكون الحوار بعيداً عن السياسة ومرتكزاً على العمل الاجتماعي والدعوي، وظل الرجل رغم محاولاتي اليائسة مصراً على موقفه من عدم تعاطي السياسية حتى ولو من زاوية اجترار الماضي.. لا شك أن الرجل لا يخاف السياسة أو يهابها فقد كان سياسياً محنكاً تسلم السلطة عندما رأى أن المصلحة الوطنية تتطلب ذلك وسلمها بعد أن أشرف على انتخابات نزيهة وشفافة.. فالسياسة عنده ليست غاية في حد ذاتها فهي وسيلة لخدمة الوطن والمجتمع وطالما توفر له أن يخدم أمته وهذا مجال أوسع من وطنه السودان عبر وسيلة أخرى وهي الدعوة والعمل الإنساني فبها نعمت. لقد اعتزل "سوار الذهب" العمل السياسي وعكف على عمل الدعوة، معيداً سيرة التابعي الجليل "معاوية بن يزيد" الذي ترك الحكم ولم يقبل توليه.. لم يزده انطفاء أضواء السلطة وزخارفها من حوله إلا ألقاً وعظمة فلم نره بعدها إلا محفوداً محشوداً مخدوماً يجتمع الناس حوله، ولعل اختياره لرئاسة منظمة الدعوة الإسلامية أكبر منظمة دعوية في إفريقيا التي يعود الفضل إليها في تشييد المساجد، والمستشفيات، وملاجئ الأيتام ومراكز رعاية الطفولة في أرجاء واسعة من القارة، اختيار صادف أهله.. قبل "سوار الذهب" هذا التكليف بقناعة تامة تنطلق من إيمانه العميق بأن ميدان الدعوة والعمل الاجتماعي من أشرف الأعمال وربما أقربها إلى فطرته السليمة.. تولى "سوار الذهب" مناصب أخرى في ذات المجال، حيث شغل منصب نائب الرئيس للمجلس الإسلامي للدعوة الإغاثة وتضم نحو 70 منظمة، ونائب الرئيس للهيئة الإسلامية العالمية في الكويت، ونائب رئيس (ائتلاف الخير) في لبنان وتعنى بدعم القضية الفلسطينية، وهو كذلك نائب رئيس أمناء مؤسسة القدس الدولية. وليس مصادفة حين فاز "سوار الذهب" بجائزة الملك فيصل العالمية في مجال خدمة الإسلام في العام (2004م) بجانب الذين سبقوه مثل العلامة "أبو الأعلى المودودي" والملك "خالد بن عبد العزيز آل سعود" و"الشيخ عبد العزيز بن باز" والمفكر "أحمد حسين ديدات"، والدكتور "رجاء جارودي" والشيخ "محمد الغزالي" وغيرهم من عظماء هذه الأمة.. من شروط هذه الجائزة، العمل على خدمة الإسلام والمسلمين في المجالات الفكرية والعلمية والعملية. • آخر الكلام: أليس "سوار الذهب" مثالاً يُحْتذي به في شتى المجالات؟ ألا يستحق أن تُدَرَّس سيرته؟.. قيل إن المخرج المصري "حامد حسن" طلب من الممثل "أحمد زكي" بعد أن يتعافى من المرض الذي توفي بسببه أن يقوم بتمثيل فيلم عن "سوار الذهب"، لأن "أحمد زكي" نجح نجاحاً كبيراً في فيلمين عن الرئيسين "أنور السادات" و"جمال عبد الناصر".. أطال الله بقاء الرجل ومتعه بالصحة والعافية وأكثر من أمثاله فنحن في أمسِّ الحاجة إلى الاقتداء بمن يشغل نفسه بالحقيقة ويبتعد عن التوافه ويعمل مخلصاً أميناً لرفعة شأن الإنسان والإنسانية.