ما خشيناه وقع، وهاهي الملاريا تكشر مرة أخرى عن أنيابها .. وتهاجم السودانيين في جبهة جديدة .. لا ندري إلى أين ستقودنا . هذا الداء الشرس، والذي عشعش في أكباد السودانيين سنين عددا، تم وضع برامج محكمة لمحاربته، بعضها كان وقائيا، وبعضها كان علاجيا، وبعضها قام بمهاجمة جينات الأنوفيليس وتحييد تكاثرها، وكانت النتيجة النهائية أن الداء انحسر إلى حين .. ولم نكن نعلم أن الأمر هو الهدوء الذي يسبق العاصفة . كل الجهود التراكمية التي تمت، والتي أنفق فيها من أموال السودانيين المليارات .. باتت الآن في مهب الريح، بعد أن أظهرت المؤشرات الأولية للمسح القومي لمعدلات الملاريا .. ارتفاعا لافتا للإصابة بالمرض. الخبر الذي اوردته زميلتنا فاطمة عوض، ونشرته هذه الصحيفة أمس، قال إن المؤشرات أظهرتها فرق البحث العلمي المكونة من قبل البرنامج القومي لمكافحة الملاريا من أعمالها، والتي بدأت منتصف الشهر المنصرم . عودة المرض نتيجة متوقعة، بل وحتمية، في ظل الانهيار الاقتصادي الذي تكابر الحكومة عن الإقرار به، والذي أدى لكل هذه النتائج الكارثية في معيشة الناس وصحتهم وظروفهم البيئية التي يعيشونها في غالبيتهم العظمى . قبل أيام قليلة .. قادتني قدماي لمستشفى الخرطوم .. مرافقا لمريض تم تحويله لقسم الحوادث، وهي المرة الأولى التي أدخل فيها هذا القسم منذ سنوات طويلة . بكل الصدق وجدت بيئة عمل لا يمكن أن نصفها بأنها بيئة (طوارئ)، ولا يمكن التصديق بأن ما يجري فيها يحدث في أعرق مستشفيات البلاد وأكبرها . كان الواضح أن هناك جهودا شخصية جبارة تجري .. سواء من الأطباء أو من الفنيين العاملين في المجال الصحي، لكن الكارثة كانت في ضيق المساحة المتاحة للمرضى قياسا بأعدادهم، وحالات الضغط على الأجهزة المستعملة للعمل، مثل جهاز قياس ضغط الدم، والذي شاهدت احدى الطبيبات المثابرات تبحث عنه .. وتسأل بإلحاح زملاءها عنه .. حتى تتمكن من متابعة ضغط مريض .. جاء كحالة طارئة للحوادث قسم الباطنية . طبعا الفحوصات كلها بالدراهم الساخنة التي لا تقبل الاسترحام، فلا صورة إشعاعية يمكن أجراؤها بالمجان، ولا فحص مختبري يمكن التوسل لإجرائه ببلاش . لا أعرف إن كان الحراك الذي يجري حاليا في مستشفى الخرطوم، سيؤدي لتحسين الخدمة في هذا المستشفى العريق، والذي يعكس صورة صادقة وقاتمة للوضع الصحي الكلي في السودان، فما دام هذا هو حال المستشفى المركزي، فكيف بحال المشافي في كل ولايات السودان ؟ ما يهمنا هو مصيبة الملاريا التي بدأت تكشر عن أنيابها، ما يتهددنا جميعا .. ويتهدد طاقات الوطن بأجمعه، حيث أشار الخبر إلى أن بعض المصادر انتقدت تغول بعض قيادات وزارة الصحة الاتحادية على الميزانيات المخصصة لأعمال المكافحة .. وتحويلها إلى غير الأغراض المخصصة لها، بما أسهم في وضع شبه كارثي . هذه الانتقادات إذا صدقت، تتطلب فتح تحقيق موسع، يكشف القابعين خلف تحويل الاعتمادات المخصصة لمكافحة الملاريا لأغراض أخرى، ما أدى لإجهاض العمل التراكمي الكبير .. والذي امتد لسنوات حتى تحققت نتائجه على أرض الواقع . الملاريا بدأت رحلة العودة، ولا بد من تحرك سريع يضمد هذه الطعنة .. في جسد لم يخل جزء فيه من الجراح والطعنات !