وأنت في قمة تجليات الغياب والهروب تطل عليك من سرداب الزمن امرأة من نوع آخر، امرأة عاصرت طفولتك وسكبت في ماعون إحساسك عطراً ما زال في غرف القلب طازجاً كشجرة الحناء، إنها سكينة غريبة، أمي الثانية، سيدة بهية بكل ما تحمل عربة الكلام من إحساس شفيف، امرأة تحمل مقومات السكينة والوداعة، سيدة مثل قمر هارب في عشية تتنفس عبق الصيف، تملك حضور الصمت الآسر والعفوية والضحكة البريئة، تحاول أن ترسم صورتها البهية في ذاكرتك المشوشة بالسفر والترحال ومدن الضجيج والغياب، تجدها في تلافيف الذاكرة أكثر حضوراً وبهاء (يووووووووووووه)، تتذكرها في قرية منسية تتثاءب بين النيل ومجاهل الصحراء الكبرى، تربط بين هذه السكينة وملامح منزلكم القديم وشريط النخل ينهض عند حواف النيل، نخل شاخ وما يزال يرنو إلى النهر الجموح ويبوح بأسرار وحكايات معجونة بلغة الأمس، بالأمس صنعت من حكاياتك سيناريو عفوي حد الإفراط، سيناريو كنت وحدك البطل في تفاصيله المشوشة بالضبابية، تتذكر سكينة الوادعة وأنت تبحث في دروب الماضي عن وجهك القديم، تسأل حيطان البيوت والرمل المتعب عن ماضيك، تلمح من فرجة الزمن مشهد طفل ناحل حافي القدمين هارب في الطريق الممتد بين النهر الجامح وباب الحراز، تجدها في كل كراريس أيامك، امرأة ناحلة، بشوشة، وطيبة كزخة من العطر تعبر في تخوم بحيرة من النسيم، تتذكرها وهي تستفيق من عملية جراحية في العظام وتداعبها أن جرحها يفور في قلبك، فتأتيك ضحكتها كما هي عفوية وناصعة كنجم هارب من ضجيج الريح، تتذكر "سكينة" الوادعة بين ردهات منزلكم القديم وتستحضر، فورة أشجار النيم وهي تتكئ على شرفة الصبح المزحوم ببقايا كحة جافة وصوصوة عصافير نزقة هاربة من سيمفونية رياح أمشير اللئيمة، وما أتعس يوميات بقايا الشتاء في البر الشمالي، تتذكرها تقف وحيداً تبكي على الأطلال، فلا يؤنس وحدتك في أطلال منزلكم القديم سوى عزف الريح الهاربة من شقوق جدران متصدعة، تمد بصرك نحو مشهد منزل الأطلال، فتجد أن ركام ماضيك اكتسحته الرياح ولم يتبق في ماعون الذاكرة غير نتف من المشاهد الباهتة. كانت "سكينة" أمك الثانية، مثل غمامة في صحراء تغيب فيها الظلال، تزيل عنك الرهق وتكتب في دفتر يومياتك حكايات نابضة بالطيبة.