طوال تاريخ السودان المعاصر- وتحديداً بعد الاستقلال- ظلت الأحزاب الجنوبية مجرد (تمُومة جرتق) في التشكيل الحكومي؛ وإن شئت الحداثة قل إكمال ديكور، وينقسم هذا إلى مرحلتين في المرحلة الأولى- قبل ظهور الأحزاب الجنوبية- كان الجنوبيون كأفراد في هامش الأحزاب الكبيرة. وكانوا يُكمل بهم التشكيل الوزاري؛ كي تبدو الحكومة قوميةً، وقد سمعنا الطرفة التي تقول إن أحد قادة الأحزاب عرضت عيه وزارة الثروة الحيوانية فقالعلي الطلاق ما أمسكها؛ ليه أنا جنوبي؟) فالرجل سامحه الله- وبحكم مرحلته- كان يجهل أهمية الاثنين الجنوب، والثروة الحيوانية؛ بعد أن فرزت الأحزاب الجنوبية عيشتها، و(قنعت من خير) في الأحزاب الشمالية؛ إذ لم تتجاوز محطة (تمومة الجرتق) كثيراً. الحكومات العسكرية لم تكن أحسن حالاً من الأحزاب؛ ففي حكومة عبود لم تكن مكانة الجنوبيين بارزةً بعد أكتوبر؛ تولّى الراحل كلمنت أمبورو وزارة الداخلية، وكانت هذه أول وزارة سيادية يتولاها جنوبي؛ لذلك عندما أشيع أنه قتل اندلعت أحداث الأحد الأسود في نوفمبر 1965. بعد اتفاقية أديس أبابا منح الجنوب حكماً إقليمياً، وزادت حصة الجنوبيين السياسية في المركز؛ إذ أصبح منهم نائب ثانٍ لرئيس الجمهورية، وزاد التفافهم حول نميري. ولكن نميري هدم معبده عليه، وعليهم بتمزيقه لاتفاقية أديس أبابا؛ وبدفع جنوبي تحديداً من جوزيف لاقو الذي أراد إنهاء سيطرة الدينكا. الحركة الشعبية؛ وبحكم (منفستوها)، ومسيرتها السياسية حرباً وسلماً فرضت نفسها كحزب سياسي كبير في السودان، وتمظهر هذا في اتفاقية نيفاشا التي أعطتها كل الجنوب، وشراكة (معتبرةً) في حكم الشمال؛ قلل من فاعليتها فيه؛ زهدها في الوحدة، وطمع شريكها الوطني، وهي الآن الحزب الثاني على المستوى القومي من دون منازع؛ ولكنها أصبحت هي المتحكم في توجيه دفة الحركة السياسية؛ فالمعارضة السياسية لحكومة الوحدة الوطنية- وإن لم يعجبك الاسم- قل حكومة نيفاشا هذه المعارضة ليس لها ملاذ اليوم غير الحركة الشعبية؛ فإذا أرادت أن تقاطع الانتخابات، أو تنسيق انتخابي لن يتم لها ذلك إلاّ بواسطة الحركة الشعبية. المؤتمر الوطني سيجد نفسه في ماأزق إذا ما قاطعت الحركة الشعبية الانتخابات، أو نسقت مع الأحزاب الأخرى باختصار كلا المؤتمر، والأحزاب الشمالية اليوم يخطبون ود الحركة الشعبية؛ ومن المؤكد أن الحركة ستطالب بثمن تحالفها؛ مع أي منهما فليس هناك موقف مجاني في السياسة. مشكلة الحركة الشعبية اأن لها أجندتها الخاصة لذلك ستتحالف أو تنسق في حذر شديد؛ هذا إذا لم نقل إنها يمكن أن(تبيع) فهي اليوم مشدودة نحو الانفصال لهذا فهي مضطرة للعمل مع غريمها،، وشريكها المؤتمر الوطني؛ لأنه بيده تنفيذ الاستفتاء لتقرير المصير وفي الوقت نفسه؛ يمكنها التنسيق مع الأحزاب المعارضة لكنها ستدخلها في مأزق سياسي وأخلاقي؛ إذا فاز مرشحها للرئاسة مع إصرارها على الانفصال. المهم في الأمر أن الحركة الشعبية قد قلبت الطاولة على الأحزاب الشمالية، واستطاعت تجاوز مرحلة (تمومة الجرتق) التي كانت تقف عندها الأحزاب الجنوبية، واأصبحت قلب الحركة السياسية يهرع الشماليون إليها في جوبا؛ أي تجاوزت محطة الهامش، ولكنها سخرت نفوذها لخدمة الانفصال ومن ثمّ خسرت دورها القومي ربما كان ذلك تخوفاً من ضياع هذه المكانة؛ وعملاً بفكرة الشاعر إذا هبت رياحك فاغتنمها فالريح طابعها السكون. ولكن تبقى المفارقة في أن الجنوبين طوال تاريخهم يشكون من التهميش القومي، وعندما (تمركزوا) تحكموا في ميزان الحركة السياسية اختاروا(فك البيرق). صحيفة التيار - حاطب ليل - 24/3/2010 [email protected]