أعطت الحكومة ووسائل الإعلام المحلية زيارة قيادات الجبهة الثورية المتمردة إلى بعض العواصم الأوروبية، صخبًا دعائياً وسياسياً وضخَّمته ليكون أكبر بكثير من اعتقادات أصحاب الزيارة نفسها، وهناك فرق كبير بين أن تكون الدعوة للزيارة هي دعوة رسمية من الحكومات الأوروبية، والدعوات التي توجهها المنظمات وتجمعات الناشطين الأوروبيين المتبنين من سنوات قضية دارفور والجنوب وجنوب كردفان والنيل الأزرق بغية إسقاط النظام القائم في الخرطوم.. وليس خافياً أن الجبهة الثورية وقضية دارفور وقضايا المنطقتين جنوب كردفان والنيل الأزرق، قد تراجعت كثيراً في الآونة الأخيرة ولم تعد تثير اهتمامات الرأي العام الغربي، ويئست منها حكومات غربية عديدة كانت تترجى أن تكون مضاعفاتها سبباً في انهيار الحكم في الخرطوم. ولم يعد هناك حماس حقيقي من الأوروبيين على أقل تقدير في الاعتماد على الحركات المتمردة وبقايا الحركة الشعبية في عملية إسقاط النظام، فوسائل أخرى قد تكون فعّالة أكثر من الحرب، لكنه ليس وارداً في الوقت الراهن المراهنة على هذه الجبهة المتأكِّلة من الداخل ولا يوحِّدها خيط ناظم سوى الحد الأدنى المتفق عليه بينها وهو الزحف نحو الخرطوم! فالسؤال إذن.. لماذا هذه الزيارة في هذا التوقيت؟ الإجابة لا تبدو عسيرة للمتابع لتطورات الوضع في السودان، وتتلخص في ما يلي:- اولاً: شعرت الجهات الغربية التي تقف وراء هذه الجبهة وتدعمها أن المناخ في الداخل السوداني وعلاقة السودان ودولة جنوب السودان، ومواقف الدول الإفريقية على الصعيد الإقليمي وتسارع وتشابك الأوضاع الدولية، لم يعُد في صالح العمل العسكري ضد الخرطوم، خاصة بعد تجربتين قاسيتين هما محاولة احتلال هجليج العام الفائت والهجوم على أب كرشولا وأم روابة، والخسارة الفادحة للجبهة الثورية في هذين الحدثين وتأثيراتها على الوضع الداخلي وتماسك السلطة في الخرطوم أكثر ونجاحها في الاستفادة ممّا جرى وتوظيفه لصالح دعايتها السياسية والتعبوية، ولم تستطع الجبهة الثورية برغم الدعم الكبير الذي توفر لها والعتاد الحربي الذي كان تحت يدها، تحقيق نتائج موجبة تُعلي من قدر العمل العسكري وتجعله هو الحاسم في محاربة السلطة في الخرطوم وإضعافها.. وفي هذا السياق جاء موقف الحكومات الأوروبية واضحاً بإدانة الهجمات من قبل الجبهة الثورية على المدن وحقول النفط ومناطق المدنيين وعدم حماسها في منح دعمها السياسي للجبهة الثورية، الأمر الذي قلل من فرص متمردي الجبهة في الإبقاء على حالة التعاطف السابق كما هي.. ثانيًا: وجدت الانتهاكات والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبتها الجبهة الثورية وقواتها في جنوب كردفان والنيل الأزرق ودارفور، صدىً واسعًا لدى الرأي العام المحلي والخارجي، ومع أن المواقف منها لم ترتق إلى رد فعل يؤبه له وإجراءات عملية، إلا أنها عجلت بانحسار التعاطف مع هذه الحركات والمجموعات المسلحة ومع الحرب التي تخوضها بلا طائل وثمرة.. ثالثاً: ظلت الحكومات الغربية وخاصة الأوروبية، تضع استقرار وأمن وسلامة الدولة الوليدة في الجنوب في مقدمة أولوياتها، وتربط بين بقاء هذه الدولة حديثة التكوين والولادة وقدرتها على العيش على ضوء علاقتها مع السودان، وقد توصلت لهذه القناعات بُعيد الإعلان عن قيام هذه الدولة، وشجعت التقارب بين الخرطوم وجوبا لهذا السبب، ولا تريد في هذه المرحلة أي توترات تزيد الطين بلة وتصب الزيت على النار حتى تخرج دولة الجنوب من مرحلة الخطر، كما شعرت بانعكاسات أي تقارب بين الخرطوم وجوبا على الأوضاع في البلدين بما يعزز الفكرة المركزية أن الحوار والسلام والاتفاق أثمن بكثير في هذه المرحلة من لغة الحرب ولعلعة الرصاص.. ولذلك كانت بعض الحكومات الغربية حاسمة جداً في التعامل مع الجبهة الثورية والحركة الشعبية قطاع الشمال، وأذكر أنه في مايو «2012» وكنت في ذلك الأوان بالعاصمة الألمانية برلين بعد تطواف على عدد من العواصم في أوروبا، لم تسمح الحكومة الألمانية لياسر عرمان الذي هبط برلين لحشد التأييد للجبهة الثورية وقطاع الشمال، بعقد أي لقاء رسمي أو حتى مع المنظمات غير الحكومية والناشطين، وتم عقد اللقاء اليتيم له داخل مبنى السفارة الأمريكية في برلين، وقد اعتُبر ذلك موقفاً ورسالة واضحة من أكبر دولة أوروبية لدعاة الحرب في السودان. وذات الشيء تكرر لقيادات الجبهة الثورية وقطاع الشمال وحتى قيادات نافذة في حكومة دولة الجنوب تكنُّ كراهية وعداء للسودان، أُبلغت بشكل واضح، أن زمن الحرب والدعم المفتوح قد ولى بغير رجعة.. خامسًا: يلحظ كثيرٌ من المراقبين أن لغة الخطاب السياسي التي تتحدث بها قيادات الجبهة الثورية وهي في الأرصفة الأوروبية مع بداية الصقيع، قد جنحت إلى المفردات السياسية واللغة المخنثة فلا هي لغة حرب ولا لغة تفاوض، ويبدو أن ذلك محسوب بدقة، حيث ترغب كثيرٌ من الجهات التي تقف وراء هذه الجبهة إظهار هذه القيادات الزائرة في نسخ جديدة وإلباسها ثياب السلم والتفاوض لتضرب هذه القيادات بخُمر السياسة على جيوب جلابيبها العسكرية، علّ ذلك يأتي بنتيجة ويعيد الأضواء من جديد للأزمة في السودان... *** أما إذا كانت الزيارة والجولة هدفها البحث عن دعم عسكري وسياسي كما كان في السابق، فإنه من غير شك لا يوجد أحد في أوروبا اليوم يبادر بتحمل كلفة سياسية ومالية لنزاعات مسلحة يقودها لوردات ومجرمو حرب، لا يملكون رؤية موضوعية يمكن أن تقفز بهم إلى سدة السلطة وإدارة بلد مثل السودان.. هنيئاً لقيادات الجبهة الثورية هذه الليالي الشتائية الباردة في أوروبا في سمر وسهر الفنادق بعيداً عن الخنادق... أما قبل - الصادق الرزيقي صحيفة الإنتباهة