لا أحسب أن الصحفي أي صحفي لا يقرأ.. وأعني بالقراءة هنا، قراءة الصحف اليومية ليس لمتعة القراءة والمعرفة فحسب، بل للاستزادة من المعارف والمعلومات، ومتابعة اتجهات الرأي العام الذي هو جزء منه، ولكن الضرورة تحتم عليه أن يقرأ ما يكتبه الآخرون، حتى يلم باتجهاهات تفكيرهم الذي يشكل أساساً للرأي العام. أحرص على قراءة عدد كبير من أعمدة الرأي، ربما لا أقرأ إلا لواحد كان يكتب أسبوعياً في صحيفة محترمة، ثم أصبح يكتب من حين إلى آخر في إحدى الصحف اليومية.. أما لماذا لا أقرأ له، فلذلك سبب واحد هو الأكاذيب التي تعمل على تزييف الحقائق وتغيير التاريخ، الذي تجاوز الكاتب، فأراد أن يلحق به من خلال إقحام نفسه في أحداث كان يعيش خلالها على الهامش، خائفاً يترقب، وعندما غاب الشهود أراد أن يلعب دور البطل! ما علينا.. بالأمس أعجبني مقال أستاذنا وأخينا الأكبر الدكتور إبراهيم دقش، وقيّمته بيني وبين نفسي بأنه أفضل ما كتب في كل أعمدة الرأي المنشورة في كل الصحف أمس، وتأثرت به كثيراً، حتى أنني تمنيت لو أنني كتبته، فقد كان حاراً مفعماً بالعاطفة والصدق.. أقدمه هدية لقراء هذه الزاوية، وآمل أن يقبلها الجميع.. وأحسب أنهم سوف يفعلون. عابر سبيل د٫ ابراهيم دقش طفل في الخامسة من عمره سألوه في المدرسة أو «الروضة» عن «البيت».. فجاء رده قاطعاً: البيت هو المكان الذي توجد فيه «ماما»! ورغم أن الإجابة تقليدية وغريزية فإنها تعتبر أصدق وصف لذلك المكان.. فقد تذكرت يوم ساقني أبي عليه الرحمة وأنا ابن عشرة إلى شاطيء النيل وأنا أحمل حقيبتي الصغيرة لتنقلني المركب إلى غابة «حمراني» ومن هناك تأخذني عربة «البوستة» إلى داخلية المدرسة الوسطى التي قبلوني فيها.. وكانت أول مرة أفارق فيها بيتنا.. ومن ثم، أمي.. ففاجأتني عند حافة المركب «دمعة» كانت ردة فعل أبي عليها قاسية: عاوز تقعد مع أمك؟ هل تريد أن «ترضع»؟ وكبرت وبدأت أتردد على بيتنا ذاك، لأن فيه أمي.. وآخر مرة رأيتها فيها، ناولتني مفتاح «مخزنها» ودخلته لأجده خاوياً على عروشه بعد أن كان يعج بالمواد التموينية.. وطلبت مني أن أعيده سيرته الأولى، وقد فعلت ذلك بسرعة مذهلة ثم أعدت لها مفتاحها الذي وضعته تحت وسادتها، بعد أن تأكدت بنفسها من توفر السكر والشاي واللبن في المخزن، وسألتها لماذا؟ فردت بعفوية: إذا متُ وأنت غائب أضمن أن المعزين يتعاطون الشاي والقهوة.. فقلت لها وما شأنك بهم بعد أن ترحلين؟... وبعد ذلك بقليل فارقت الدنيا، وعقب العزاء تأهبت للسفر وفاجأتني بنت أخي الصغيرة وهي تخاطبني: هل تجيء إلينا بعد أن ماتت أمك؟ ذاك كان قبل ربع قرن من الزمان تقريباً ومخزن المرحومة أمي «أضحى» مهجوراً، ينبيء عن تاريخ وعز استهلاكي. وطمأنينة تموينية.. والناس اليوم يبحثون عن رزق «اليوم باليوم» والسلع «طارت» السماء والتلاعب في الأسواق قائم «والغش» مباح، والجشع يتضخم، وكل واحد يريد أن «يثري» ولو مات الآخرون حسرة وكمداً... والواضح أن الأسواق ليس فيها «ضابط أو رابط» وكل واحد يبيع بما يحلو له من سعر، بما في ذلك بضائع «فاسدة» ومنتهية الصلاحية.. «وتبدو السلطة» مغيّبة أو غائبة أو «تائهة» وربما «مكتوبة». وإذا كان رجل في قامة إمام الجامع الكبير بالخرطوم، الشيخ كمال رزق، يطالب بإعلان حالة الطواريء في الأسواق، أجد نفسي أتعاطف معه، وأطالب بأن تشكل محاكم «عسكرية» لحسم انفلات السوق «وتلاعب» المتلاعبين، وتصدر أحكام «ميدانية» رادعة. فلا مخرج إلا بهذا، وصدقوني إننا نحتاج إلى «صدمة» قوية علنا نصحو ونفيق بعد أن «قرح» أكثرنا وتجاوز أغلبنا على حساب المواطن المسكين!! بعد ومسافة - آخر لحظة [email protected]