يقول البروفيسور حسن الساعوري، أستاذ العلوم السياسية بالجامعات السودانية، والقريب من ملف علاقات السودان بمصر، في تحليله: (إن أزمة العلاقات بين البلدين ترتبط عضوياً بطبيعة النظام السياسي شمالاً وجنوباً، ولكن في نهاية المطاف ينتصر التقارب الشعبي بمقومات وحدته)، الساعوري المتخصص بالمقابل في عمليات توزيع حصص مياه النيل، يضع كل الأمر في جانبه الشعبي، وأن الشعوب هي التي تحدد مساراتها كما فعل المصريون في ميدانهم وهم يسعون (للتحرير). القصة قصة (شعب) هكذا تضع النخبة تفاصيل المشهد فيما يتعلق بحراك العلاقة التي يحملها النيل من الجنوب للشمال وهو يجاهد كيما يجعل (الوادي) أرضاً للمحبة تدفعها مياه التاريخ المشترك وهو ذاته ما يصنع المعضلة المشتركة . الشعب حبيبي وشرياني أداني بطاقة شخصية.. المهنة مناضل وبتعلم تلميذ في مدرسة الشارع.. الشارع فاتح علي قلبي والقلب مساكن شعبية.. أنشودة محجوب شريف التي يغنيها هناك محمد منير كتعبير عن وحدة الذائقة الفنية، لكن الوحدة نفسها لم تكن تخرج من طبيعة الصراع الموروث الذي لم تنج منه حتى (القصيدة) . الشريان الواحد يضخ الدماء في نيل العلاقة كما يقول من يحاولون بناء العلاقة على جدار الشعب باعتباره جدارا غير قابل للسقوط، فالأنظمة إلى زوال وتبقى الشعوب في نهاية الأمر. إذن برؤية كثيرين فإن معالجة اختلالات العلاقات السودانية المصرية بعيدة عن المكان.. الذي سيجمع (البشير والسيسي) اليوم هي علاقة تبدو ماثلة في شوارع الخرطوم وأزقة القاهرة، يمضي بها غمار الناس وهم من يحقنونها بإنسولين الاستمرارية والديمومة. يا ابن النيل.. ترافقها مرحب بسمارة، تخرج من أصوات المجتمعين في المقاهي القاهرية. السمر أنفسهم هم من يذهبون حين يأتي ليل الخرطوم في اتجاه شارع المطار، يقضون ليلتهم ويتناولون عشاءهم في مطعم جاد، يستمعون إلى ذات اللهجة المصرية التي ربما تعود معك وأنت عائد إلى المنزل عبر فيلم قديم أو مسلسل يرسم لك تفاصيل الحارة المصرية بكل صخبها. تبدو حالة التقارب السوداني المصري شعبياً حالة فريدة من نوعها في جانب ما. لكن غرابة التقارب قد ترسم صورة تباعد تبدو مثيرة للدهشة في ذات الوقت. وهي تطرح تساؤلات تتعلق بإمكانية قراءة المستقبل وفقاً لجدلية الشعبين في الدولتين. أصبح من المعتاد أن تستقل إحدى عربات المواصلات العامة في الشوارع الخرطومية لتكتشف في بداية الرحلة أن الممسك بالمقود مصري الهوى والهوية، يداعبك بذات لهجة أبناء جلدته في الشوارع القاهرية، ويجادله الركاب بذات طريقة جدلهم مع أبناء البلد، وتكتمل الرحلة لتبقى التساؤلات المتعلقة بلماذا هذا التقارب دون غيره وما الذي يجعل مقبولية القادم من مصر هي الأكبر مقارنة بالآخرين.؟ وربما يمضي الأمر أكثر من ذلك لينصب في الطريق الرابط بين البلدين والذي تم افتتاحه قريباً، لكن ماذا عمن جاءوا قبلاً.؟. لكن التقارب المرئي لم ينجح في المساهمة في عملية بناء علاقة سوية تبعد بذاتها عن صراعات السياسة وتقلبات الأنظمة وتوجهاتها. وحين يذكر مجد (العبور) المصري في أكتوبر، فإن النص لا يكتمل إلا بذكر مشاركة القوات السودانية لإخوتهم شمال الوادي وهي المشاركة التي لم تكن تنحصر في الرغبة السياسية وحدها، فقد سبقها ما عرف بالاستعداد للتطوع في مواجهة العدوان الثلاثي في العام 1956 ضد مصر، تشهد كذلك (الكتوف) التي حملت على ظهرها عربة ناصر المهزوم فأعادت إليه هيبة القيادة بفعل سوداني . لكن كل هذه الانتصارات في المجال الشعبي وجدت نفسها مهزومة في اتجاهات أخرى ليست بالضرورة أن يوقع على الهزيمة قرار سياسي كما يحدث دائماً وإنما يمكن أن يتم التوقيع عليها بقراءة شعبية ذاتية، فمتانة العلاقة التي تبدو بارزة على سطح الأحداث ثمة من يصفها بأنها علاقة ذات طابع (هش) أو هي علاقة (طق حنك) أكثر منها علاقة حقيقية.. يفسرون هذا الأمر بأنه يعود إلى مجموعة من التداعيات التاريخية التي انطبعت في مخيلة بعض السودانيين حين تعاملهم مع الجار المصري . الإرث التاريخي يعرض في أجندته صورة حملة محمد علي باشا القادمة من الأراضي المصرية في القرن الثامن عشر ودون أن يتجاوز هذه الصورة قد تعود به الذاكرة إلى صورة العلم المصري المرفوع فوق سارية قصر كتشنر في القرن التاسع عشر وترافقه عبارة السودان مستعمرة مصرية بريطانية وهو ما يعزز من فرضية أن المصريين ينظرون إلى السودان باعتباره امتدادا طبيعيا لهم وفقاً لعقلية التاج المصري التي سادت لزمن طويل. وهو ما يجعل العلاقة وكأنها علاقة مرارات يجب تجاوزها كما أنهم يمسكون على المصريين ونخبتهم عدم المعرفة الحقيقية بالسودانيين وهو ما يبدو عكسياً حين يتعلق الأمر بمعرفة السودانيين لمصر بكل تفاصيلها. لكن ثمة من يحسم كل الجدل في المقابلة بين (الفهلوة المصرية والطيبة السودانية) وهو أمر يزيد من حدة حنقه على علاقة (الاستعباط) وإفرازاته ومطالباً في الوقت نفسه التعاطي بندية فيما يتعلق بمسارات المستقبل التي لا يمكن الوصول إليها إلا بتناسي الماضي الذي يطالب آخرون بالبناء عليه. اليوم التالي