لم يكن خروج نائب رئيس المجلس العسكري محمد حمدان دقلو المعروف ب "حميدتي" في مؤتمر صحفي يوم أمس، وما تخلل المؤتمر من اتهامات طالت الثوار، وقوى الحرية والتغيير، سوى تعبير عن الأزمة المتفاعلة في المشهد السوداني الحالي، وعن خلاف واضح بين رؤية المجلس العسكري للحل من جهة، ورؤية قوى الحرية والتغيير التي تعبر عن المطالب الشعبية المدنية، وعلى الرأس منها تسليم زمام السلطة للمدنيين. أزمةٌ ليست مقتصرة على بعدها المحلي فقط، لكنها تمتد لتعقيدات الفاعلين الإقليميين والدوليين، ففي الحين الذي عبّر فيه مؤخرا رئيس المجلس العسكري السوداني، عبد الفتاح البرهان،عن شكره وامتنانه للدعم السعودي-الإماراتي، بالإضافة للدعم المصري للمجلس العسكري وأمل البرهان باستمرار التعاون مع تلك الدول. ومن هنا، فإن تخوفات الشارع مما أسموه محور الشر، والمتمثل في الإمارات والسعودية، ودخوله في الساحة السودانية، مبنيٌّ على إفشال عمليات التحول الديمقراطي في الدول التي شهدت ثورات شعبية. وما بين هذه التعقيدات الداخلية والخارجية، تُطرح الكثير من الأسئلة التي تسعى لاستشراف اتجاهات المشهد الحالي، وعليه اتجهنا في "ميدان" لمقابلة الدكتور عبد الوهاب الأفندي، عميد كلية العلوم الاجتماعية والإنسانية بمعهد الدوحة للدراسات العليا، شغل منصب رئيس برنامج العلوم السياسية والعلاقات الدولية (2015-2017)، ومنسق برنامج الإسلام والديمقراطية بمركز دراسات الديمقراطية بجامعة وستمنستر، لندن منذ عام 1998. عمل دبلوماسياً في الخارجية السودانية (1990-1997 التحولات السياسية ميدان: يعد السودان مدخلا للعبة الأقطاب والمحاور الإقليمية، وتؤكد المؤشرات الأولية ميل قيادة المجلس العسكري نحو محور "أبوظبي – الرياض – القاهرة"، فهل يضحّي السودان بميزة التوازن مقابل تبعية الانخراط؟ عبد الوهاب الأفندي: في البدء، لا بد من التنويه أن سبب قيام الثورة في السودان هو الانهيار الاقتصادي، لذلك، فإن أيَّ نظام سيأتي سيكون بحاجة إلى الدعم الخارجي حتى يبقى في السلطة، بالإضافة إلى كون هذا الدعم يُمثّل سندا في سبيل التنمية الاقتصادية، لذلك، فإن هذا الأمر ولا شك يحدُّ من خيارات أي نظام سيأتي. إذ جاء تدخل الإمارات والسعودية ومصر واضحا في المحور الأفريقي لإلغاء قرار الاتحاد الأفريقي الذي قضى بتسليم السلطة للمدنيين في غضون 15 يوما. مما يعني أن هذه الفترة ستشهد اعتمادا من قِبل المُمسكين بزمام السلطة السياسية على هذا المحور، إلا أنني لا أعتقد بأن السودان سيرتد تماما إلى هذا المحور، حيث نعلم جميعا أن الرئيس السابق "البشير" كان يدور في فلك هذا المحور، ولكنه لم يقبل مثلا مطالبهم بمقاطعة قطر. ميدان: في المشهد المحلي يبدو الصراع شبيها بما حدث بمصر إبان "2011"، ثورة في الشارع وافقت رغبة عند الجيش، لكنها خلقت صراعا أكبر أدّى إلى تفتيت كامل القوى المدنية، فهل السودان مقبل على هذا؟ عبد الوهاب الأفندي: هذا من المخاطر التي نخشى وقوعها، لذلك يجب أن ندرس التجارب المصرية والليبية ونفهمها جيدا، كي لا نعيد إنتاج تلك التجارب في الداخل السوداني. وهذا ليس دور الجيش، بل دور القوى المدنية، فإذا كانت القوى المدنية موحّدة أو متفقة على الديمقراطية، فإن الجيش لا يستطيع أن يلعب إلا الدور الذي يُتاح له، بينما إذا كانت هذه القوى متشاكلة مع بعضها، وكلٌّ يستعين بالجيش على الآخر، فهذا سيؤدي إلى أن يقود الجيش الثورة. عبد الوهاب الأفندي (مواقع التواصل) ميدان: الأحزاب بالسودان ذات تجربة عميقة وراسخة، ولا يمكن وصفها بالكرتونية، فهل يمكن أن يتحدى الشباب دورها ووجودها؟ أم سينخرط الشباب في مشروع تلك الأحزاب لاحقا؟ عبد الوهاب الأفندي: لا يمكن تجاوز الأحزاب في أي نظام ديمقراطي، فالنظام السوداني الحالي حاول في بداية عهده أن يُلغي الحزبية في السودان، واخترع ما سُميّ بالمؤتمر الوطني، على أساس أنه الحزب الواحد في البلاد، ويجب أن ينخرط فيه كل الناس -وهذا ما اقترحته في كتابي الذي صدر في 1985-، ويجب الإشارة إلى أن خيارات الناس السياسية لا يمكن أن تتوحد، فإذا أُلغيت الحزبية ظاهريا ستكون موجودة تحت السطح. وبالتالي، ليس هناك خيار للشباب إلا أن يُشكِّلوا أحزابهم، حتى ينخرطوا فيها. ميدان: المجلس العسكري السوداني يُمثّل ضباطه امتدادا حقيقيا لفكر "الإنقاذ" وأيديولوجيته الإسلامية، ويعد البرهان أحدهم، باستثناء حميدتي، فهل نحن أمام نسخة جديدة من النظام؟ عبد الوهاب الأفندي: ليس بالضرورة، فالجيش رغم محاولات النظام لأدلجته وإدخاله في مشروعه، فإنه لم يكن خاضعا بالكامل، حتى الإسلاميون في الجيش، فهناك مجموعة منهم حاولوا الانقلاب على البشير، ولكن تم اعتقالهم في عام 2009 أو 2010. وهذا النظام اتجه للاستعانة ب "حميدتي" وقواته لأنه لم يكن يثق بالجيش من الأساس، وبالتالي، فإنني أتوقع أن حكومة الجيش حكومة مؤقتة، وهي ستعمل على تهيئة المجال فقط للعملية الانتقالية المدنية. ناهيك بأن الجيش لديه رؤية مستقلة مختلفة، والمجلس العسكري كذلك له رؤية مختلفة. كما أني لاحظت بعد التجارب العربية التي حصلت أو ما يُسمى "بالربيع العربي" أن التجربة السودانية هي أشبه بالتجربة التونسية. لذلك، فإن ردة فعل الجيش يتوقع أن تكون قريبة للشارع، وذلك بسبب أن الجيش لا يستطيع أن يتحدى الشارع. وبالتالي سيكون موقفه متمثّلا في سعيه لاحتواء المدنيين، باعتباره حلّا أفضل من تحديهم. فإذا انقسم المدنيون، كما حدث في مصر عندما طلبوا من الجيش أن يقف مع بعضهم، فإن ذلك يعطي شرعية للجيش من أجل التدخل السياسي، ولكن إذا توحّد المدنيون، فلن يتدخل الجيش. ميدان: التباينات العرقية في السودان والنزعات الانفصالية في الشرق والغرب تُشكّل تهديدا، هل يعزز فشل الانتقال السياسي تصعيد نغمتها مجددا؟ عبد الوهاب الأفندي: قد يكون هناك فرصة للعكس، فإذا ما جاءت تجربة ديمقراطية تسعى لإدماج الجهات الممثلة لهذه الحركات في النظام السياسي، فإننا سنكون أمام فرصة جيدة، وقد يقودنا ذلك لنزع فتيل الصراع المسلح. لكن كما ذكرنا سابقا، في حال تصاعد الصراع السياسي فإنه يمكن أن تتحول هذه الحركات -يعني إذا حصل صراع بين الجيش والمحتجين- إلى خيار العنف، فتتدخل هذه الحركات لتلعب دورها، وتفضِّل العنف، لتكسب أرضية سياسية. ولكن إذا تم التحول الديمقراطي بطريقة سلسة فأعتقد أن دور أو وجود هذه الحركات المسلحة قد ينتهي، ويجب دمجها في المؤسسة العسكرية القائمة. ميدان: تصعيد الصراع "الإسلامي – العلماني" بالسودان، وتصريحات بعض رموز الحراك بأنها ثورة ضد الدين أكثر من كونها ثورة على الاستبداد، هل تعبر عن موضوع الثورة أم تحرفها عن طريقها؟ عبد الوهاب الأفندي: معظم الذي شاركوا في الحراك السوداني كانوا متدينين، حيث نجد في تعابيرهم أثناء الحراك أنهم يتوجهون للدعاء لله بأن ينصرهم. إلا أن الصراع في حالة الثورة يتجه ضد الإسلاميين لا المتدينين، وبالتحديد ضد الذين ينتمون للجبهة الإسلامية وتيار "الإخوان المسلمين" الذين كانوا يهيمنون على السلطة. نعم، ربما تستفيد الدول التي تعادي الإسلاميين عموما كأبوظبي والسعودية والقاهرة من هذا السياق المعادي للإسلاميين، وتسعى لتحويل هذه المعركة إلى حرب ضد الإسلاميين بالعموم. إلا أن الأثر الفعلي على المشهد السياسي السوداني هو أن السمعة السيئة التي أعطاها النظام السابق للإسلاميين ستجعل أي محاولة للإسلاميين للوصول للسلطة على المدى القريب مشكلة. ميدان: بعد إعلان رفض قوى التغيير والحرية الحوار مع المجلس العسكري، إلى أين سيتجه المشهد السياسي؟ عبد الوهاب الأفندي: أعتقد أنه إذا لم يحصل حوار بينهم فالبديل هو الصراع، والطبيعي أن أي صراع سيؤدي إلى إشكاليات وأزمات حقيقية، فلولا تدخل الجيش لربما كان النظام الحالي لا يزال موجودا. بالتالي إذا وقع صراع مدنيّ ضد العسكر فإن ذلك لن يؤدي إلى إسقاط النظام. بالتالي، نحن نأمل أن نسارع في إعادة الأمور إلى مسارها عبر الحوار، والمواقف المتشددة يجب أن تنتهي، ولا يمكن أن يقول أحد في هذه المرحلة إما أنا وإما سأحارب. التحولات الإقليمية: ميدان: يعد السودان مدخلا إستراتيجيا لأفريقيا بالنسبة للقادمين من الشرق، فهل ستعزز التحولات الحالية دوره أم تضعفه؟ عبد الوهاب الأفندي: يجب علينا أن نغير قليلا من هذه الصورة، صحيح أن السودان يتمتع بموقع مركزي، خصوصا في شرق أفريقيا، لكن هناك دول عربية، كالجزائر مثلا، لها نفوذ وعلاقات في المنطقة تفوق السودان بكثير. وذلك على عكس السودان الذي كان موضع نزاع في فترة ما بسبب حرب الجنوب، فالأفارقة كانوا يؤيدون الجنوب على سبيل المثال، بينما وقف غالبية العرب في صف السودان الشمالي. وذلك لا يمنع أن السودان في العهود السابقة كان بوابة العرب لأفريقيا، خاصة في السبعينيات، وأن العرب كانوا مستفيدين منها، وقاموا بإنشاء بعض المؤسسات، بالإضافة للبنك العربي الأفريقي. خريطة السودان (الجزيرة) لكن بالعكس، فإذا ما توجه السودان نحو الديمقراطية وأصبح هناك سِلم في مناطقه المختلفة، فإنه سيُمثّل محور التحام بالنسبة للأفارقة، وذلك بسبب موقعه المركزي في أفريقيا والعالم العربي، وهذا كله يعتمد بالطبع على السياسة، ويعتمد أيضا في المقابل على العرب وسياساتهم. وإذا ما أخذنا الجزائر مثلا، فيمكن ملاحظة أنها لا تزال تضع أفريقيا على أنها هي المحور، بينما يتجه العرب نحو أميركا وأوروبا وآسيا. ميدان: بالنسبة لمصر، هناك مؤشرات أولية لارتياح النظام هنالك لما يحدث، فما السبب؟ عبد الوهاب الأفندي: أعتقد أن النظام المصري يريد حكما عسكريا، لأنهم يعتقدون أن هذا هو الأسهل والأكثر ضمانة، فمصر بالتحديد لا تريد في السودان نظاما يُشكّل تهديدا لها. بالنسبة لمصر، فإن أهم قضية إستراتيجية هي نهر النيل، والتي تعتمد أن يكون السودان في وضعية مماثلة لمصر. أما فيما يخص السودان، أولا: هم لم يثقوا بالرئيس السابق "البشير"، وثانيا، هم يفضلون الحكم العسكري على الحكم السياسي، ويعتقدون أن الحكم العسكري سيبتعد عن الإسلاميين في مقابل اقترابهم من القوى الخارجية كالسعودية والإمارات، وهذا بالنسبة لمصر خطوة إلى الأمام، خصوصا أن البشير كان يعتمد بشكل كبير على الإسلاميين. ميدان: اليمن تعد مرتكزا أساسيا لدور السودان في المنطقة، هل ستؤدي التحولات إلى تقليص هذا الدور أم توسيعه؟ عبد الوهاب الأفندي: على المدى القصير، أعتقد أن الحضور العسكري السوداني في اليمن سيستمر، وذلك باعتبار أن "حميدتي" هو الرجل الثاني في المجلس العسكري، وهو الأكثر استفادة من هذا الحضور، هذا العامل سيكون مساهما في استمرار الحال على ما هو عليه. بالإضافة إلى ما يتصل بالدعم السعودي والإماراتي، ورغم وجود طلبات في الشارع السوادني تطالب بعودة السودانيين من اليمن، وأن هذه حرب لا دخل لنا فيها، فإن الضرورات التي تحدث في المدى القصير المتوسط للوضع في السودان ستجعل الدور في اليمن يستمر. ميدان: في ليبيا لعب السودان دورا مؤثرا على الدوام، سواء قبل الثورة الليبية أو بعدها، هل من مصلحة السودان حاليا لعب دور لصالح الإمارات والسعودية في ليبيا؟ عبد الوهاب الأفندي: أعتقد أنّ السودان في هذه الفترة سيكون من الصعب أن يلعب أي دور في أي مكان، وذلك لانشغاله في وضعه الداخلي، وهذا ما سيفتح المجال لصالح المحور الإماراتي السعودي، فإذا لم يلعب السودان أي دور في هذه الفترة، فستلعب مصر الدور بدلا عنه وهذا ما يرجوه ذلك المحور. ميدان: تركيا والسودان علاقة معقدة، فهل يخاطر السودان بخسارة الدعم التركي مقابل استمرار الدعم الخليجي والمصري؟ عبد الوهاب الأفندي: أعتقد أنه لا يوجد دعم تركي كبير، بحيث يكون فاعلا ومؤثرا، فتركيا نفسها تعاني من أزمات اقتصادية ومشكلات داخلية. صحيح أن تركيا لها حضور من ناحية رجال الأعمال والشركات الكبيرة، إلا أني لا أعتقد بوجود دعم تركي خاص، بحيث يكون هناك موازنة بينه وبين الدعم الآخر. ميدان: النفوذ الصيني في السودان يعد مقلقا للفرنسيين والأميركيين، فكيف يمكن للسودان موازنة الأمر؟ عبد الوهاب الأفندي: أعتقد أن النفوذ الصيني في السودان يجب أن يكون مقلقا للسودانيين أنفسهم، صحيح أن النفوذ الصيني يدعم السودان في مجال التسليح، وأنه يستأثر بعدّة أمور في مجال الاقتصاد. يجدر التنويه هنا بأن العلاقة لم تكن لصالح السودان، وأن نسبة الديون قد تكون باهظة جدا، وفي هذه الحالة فإن الدولة الصينية تستفيد أكثر من استفادة السودان. صحيح أن هذا التعاون مع الصين كان مهما جدا في مجال النفط، فالصين وماليزيا ساعدتا السودان في استخراج النفط بعد أن رفضت الشركات الغربية مساعدة السودان في استخراجه. وقد مثّل ذلك حدثا غريبا، حيث عُدّت أول مرة في التاريخ الحديث، بأن تقوم شركات غير غربية باستخراج النفط، وهنا يجدر التنويه بأن الصين تملك عددا من الأصول المالية في السودان، وهذا ما قد يؤثر سلبا على الاقتصاد السوداني لاحقا، وأعتقد أن الخروج قدر المستطاع من هذه العلاقة غير السليمة سيكون أفضل. تحظى المرأة السودانية بدور فعّال في الداخل السوداني، وذلك بسبب عديد العوامل الاجتماعية التي عاشها السودانيون منذ الثمانينيات تقريبا مواقع التواصل التحولات الاجتماعية والاقتصادية: ميدان: الثورة في السودان بدأت باحتجاجات اجتماعية واقتصادية وانتهت إلى حراك سياسي مطلبه إسقاط النظام، هل كان هذا مدخلا لتصدر اليسار للمشهد؟ عبد الوهاب الأفندي: ليس بالتحديد. حقيقة، حراك "اليسار" له دور مهم جدا، وذلك لأن اليسار كان بالأصل متجذرا بالنقابات والمؤسسات المهنية، كما يعد المقابل للإسلاميين، وذلك لأن الإسلاميين كانوا على رأس السلطة. بالتالي، صحيح أن هناك إسلاميين في الحراك، إلا أن عددهم لم يكن ضخما، ولم يكن ضئيلا كذلك، بينما أعدادهم كانت بالمعدل الطبيعي، وهذا يعني أن عددهم لم يُشكّل خطرا على السلطة الحاكمة، بما أن "اليسار" كان هو الجهة المناورة للإسلاميين المقربين من السلطة، وهذا بالتحديد ما جعل أمر تصدر المشهد لليساريين والليبراليين طبيعيا. كما يجب ألا يُنسى أن هناك عناصر في الحراك تنتمي إلى معظم الأحزاب. ميدان: التركيز على المرأة في الاحتجاجات السودانية هل كان نابعا من دور مركزي حقيقي، أم من محاولة استجلاب دعم غربي للحراك؟ عبد الوهاب الأفندي: تحظى المرأة السودانية بدور فعّال في الداخل السوداني، وذلك بسبب عديد العوامل الاجتماعية التي عاشها السودانيون منذ الثمانينيات تقريبا. يمكنك أن تلاحظ مثلا أن غالبية الذين كانوا ينتمون إلى الحراك في الشارع كانوا من المتعلمين. كما نُلاحظ أيضا أن عدد النساء في التعليم الجامعي يفوق عدد الشباب في الجامعات والمؤسسات التعليمية، وذلك عائد لهجرة الشباب إلى الخارج بحثا عن العمل لتحسين مستوى المعيشة، وبذلك فإن تزايد عدد النساء لم يكن موضوعا مصطنعا. وهذا ما جعل فرصة التعليم متاحة للنساء بوفرة أكثر من الشباب، وأصبح حضور المرأة من الناحية العملية موجودا في طبقات المتعلمين والمهنيين. ناهيك بأن المرأة في المواجهات والثورات غالبا ما تلقى حماية أكثر من الشباب، خاصة فيما يتصل بموضوع "الضرب" مثلا. وهذا بالطبع لا ينفي أن هناك شجاعة من النساء السودانيات في الحراك. ميدان: هل خلق النظام السابق طبقية اجتماعية بالسودان؟ وهل يمكن توصيف ما يحدث باستخدام نظرية الصراع الطبقي؟ عبد الوهاب الأفندي: بالطبع، لا يمكن إنكار الطبقية التي خلقها النظام، والتي اختلطت بشكل كبير في السياسة. ولكن المفارقة هنا تأتي بأن الذين يفرضون الحراك في السودان هم شباب ينتمون إلى الطبقة الوسطى وللطبقات العُليا، ولم يكن صحيحا بأن الذين ينتمون للحراك هم من الطبقات المسحوقة أو الدنيا، على العكس تماما. بالإضافة إلى أن القيادات عموما تنتمي -للمفارقة- للأفضل وضعا في الطبقة الاجتماعية، خصوصا من كانوا من المهنيين والأطباء تحديدا والأسر المنحدرة من العاصمة. كما أن بعضهم من أسر مسؤولين في النظام نفسه. وهذا يوضح أنها مُفارقة عديدة وأن الطبقة التي تتصدر الصراع ليست من الفقراء، وهذا طبيعي. ميدان: تطرح اليوم فئة "الشباب" بقوة كفئة مستقلة ذات مطالب خاصة وغير مؤدلجة، بينما يعد تاريخ السودان مليئا بالأيديولوجيا، فهل نحن أمام جيل سوداني يتجاوز الأيديولوجيا؟ عبد الوهاب الأفندي: تجاوز الأيديولوجيا أمر غير ممكن، لأنه غالبا إن لم يكن لديك أيديولوجيا مصرّح بها، فأنت تشتغل بالأيديولوجيا السائدة. وهذا ما يوضّح أن ما يقولونه بشأن مطالبهم بأنها مطالب لا تحوي أيديولوجيا، مما يعني أنهم يقبلون بالأيديولوجيا السائدة، ويستعينون بالليبرالية الجديدة. فإذا كان هناك صوت مرتفع لليسار بهذه الثورات، سيكون هناك أيديولوجيا "رسالية" نوعا ما، وبما أن الشباب لديهم مطالب تُعد موجهة للدولة، فهذا يعني أن الدولة يجب أن يُطلب منها التدخل في الاقتصاد، حتى توفر لهم على سبيل المثال وظائف –بالنسبة للشباب-، وهذا يتطلب أيضا أن تَدخل في السوق الحرة. فالدولة هنا أمام خيارين، إما أن تسكت عن الليبرالية السائدة التي أصبحت تسود العالم كله، وعلى الأغلب أن هذا ما سيشهده السودان، وإما أنهم سيكونون مطالبين بتدخل الدولة أكثر في الاقتصاد، وذلك لتوفير آليات غير سوقية لآليات السوق، وهو ما سيقود إلى نوع من الأدلجة. ميدان: بما أن "العدالة الاجتماعية" والمطالب الاقتصادية تتصدر المشهد، هل يمكن أن ينجز السودان نموذجا اقتصاديا جديدا أم سينخرط بشكل أكبر في مدار النيوليبرالية العربية؟ عبد الوهاب الأفندي: هذا المجال مفتوح، فالتفكير الخلاب مفتوح في مجال الاقتصاد، وهناك خطط يجب إعدادها، وهناك أيضا رفض واضح من الثورات السابقة التي تنتمي لليسار والليبرالية الجديدة. لكن من ناحية واقعية، لم أسمع حتى الآن خطة أو رؤية تشمل غير الشيء الموجود في الشارع، حتى في غير السودان. إذ يمكننا الاستشهاد بموقف رئيس الجمهورية الفرنسية "ماكرون"، عندما قاد ثورته الانتخابية وأطاح بكل الأحزاب القائمة وطرح بأنه سيقدم طرحا جديدا غير الليبرالية الجديدة. إلا أنه حينما تولى المنصب، ووصل إلى السلطة، استخدم الليبرالية الجديدة في حكمه كغيره. فأنا لا أقول بأنه لا يوجد بديل لليبرالية الجديدة، ولكن لم نسمع حتى الآن عن بدائل واضحة، فنحن نتوقع ونقترح بأن يكون هناك تطوير.