احتلت صورة الطبيب الشاب محمد ناجي الأصم منطقة الإعجاب العميق في دواخلنا، لكنها سرعان ما تدهورت بعد تجارب مريرة في فحص الايقونات، كما لو أن هذا الشاب تحديداً هو بعض من تصورنا لقائد ملهم، يبدو ولا يكون، بالمختصر يصنع تحت أعيننا، ولا تُشبه لوثة السياسة، أو تلك الحيل الماكرة في خداع الجماهير، إلى حد عرقلة الفتيات في الحد الفاصل بين الاحتياج العاطفي وتبني الدفاع عن رمزية سياسية، وبالتالي تحول إلى غراماً في أعينهن، وقبضت ثمن جماهيرية الفتى الوسيم جهة ما، أرادت تحريك الشارع وقتها بكل من يفتن به ويثق فيه، وكانت بالأساس لديها مصلحة في أن يكون الأصم بمثابة المخلص من كل عذاباتنا، حتى دور فارس الأحلام في الخطوب المدلهمة، والنور أخر النفق بالمرة. بدا أنه شخص عادي، أعني الأصم، مجرد كادر يسهل توظيفه لكسب المعارك السياسية، إلى حد منحه شرف تلاوة خطاب التوقيع، بكل الزخم اللغوي والاستدرار الذي تضمنه ذلك الخطاب، لنفاجأ أيضاً بأن الجهة التي كتبت ذلك الخطاب المشحون بالوعود الكذوبة ليس لديها أي برنامج اسعافي لانقاذ المرحلة الانتقالية، محض بيانات مكتوبة بعناية الحرف لا أكثر. اختار الاصم السفر إلى أمريكا بعد أن ادرك ان الاحتفاء به في ولايات السودان مغامرة محفوفة بالمخاطر، لكن أمريكا التي سبقه لها قوش في بذل الصداقات الاستخباراتية، تقريباً تعد المكان الملائم لصناعة رجال السُلطة في السودان، وفي عالمنا الثالث بصورة عامة، ولنا في حكومة حمدوك أسوة غير حسنة، فالحصول على حصان غربي لإكمال السباق يبدو منطقياً، ومشبعاً لطموحات الأصم وبعض الناشطين. لكن بعض من شكوكنا كانت قد ورطت سيرته مع مدير الأمن والمخابرات السابق صلاح قوش، الذي تختبئ منا نحن العوام حلقة مفقودة بينهما، الأصم وقوش، يبدو أنها أدوار خفية، تضمنتها كراسات السجن، وقد وصل الأمر إلى التلويح بها، وهذا يوحي بتجارب المساومات الكبرى، أو سمها المساومات السرية، وصناعة النطف النجومية وأنابيب النضال، لتخليق جنين الانقلاب الثوري . في تدوينة أخيرة تحت عنوان " وعي إيه اللي جاي تقول عليه" كتب الروائي الجرئ هشام آدم عن الشخصيات التي تتصدر المشهد العام، ذكر من بينهم " محمد ناجي الأصم" وتساءل هشام "هسي في زول سأل نفسو، ليه الأصم دا مشى أمريكا أصلًا؟ ليه لسه مصر إنه يلعب الدور السياسي اللي أصلًا ما بتاعو ولا بيفهم فيهو حاجة؟ ما هو في النهاية طبيب، ونقابي، والمفروض دوره يكون انتهى بعد توقيع الاتفاقية. ليه لسه مصر إنه يمارس العمل السياسي؟" وأجاب هشام على تساولاته بنفسه : ببساطة لأن الناس دايرة كدا !! وهنا يمكن مغالطة هشان بان الناس ما عادت " دايرة كده" وربما محاولات تسويق الأصم داخلياً فشلت، أو بدأ العقل الثوري يصطدم بالاحتياجات الملحة، كالدقيق والخبز والحليب والبصل، قفة ملاح الفرح المنكوب، وهى لا تتوفر بطبيعة الحال للأصم ورفاقه، ولسان حالهم مقطع حميد " يا بحر الحاصل لاك ناشف لا قلمي الفي إيدي عصا موسى" لأن الكاريزما هنا لا يمكن أن تطيب جراح أسر شهداء فض الاعتصام، أو تنقذ الطفل المسكين بالصقعة الكهربائية من الموت، ولا يمكن أن تشفي مريضاً يتقلب على الفراش، لن تشفيه بالطبع رائحة قميص الكارلوهات والبراعة في لؤي الفم بكلمة (yeah) فهل ضاع هو أم ضاع منه الطريق؟ وإذ ما يبدو أن السكرة انتهت، وعلى الأصم ورفاقه إدراك ذلك .