الوضع الراهن يزداد تأزما، ويتطلب علاجا على مرحلتين: الأولى: هي تدخل عاجل لتفعيل الآلية الملائمة لتحقيق الانتقال من الوضع الحالي، إلى وضع تقوده حكومة مدنية مقبولة شعبيا، تعمل لتلافي مزالق الانهيار الاقتصادي والتدهور الأمني. هذه المرحلة لا تحتمل الانتظار، وهي أشبه بمرحلة طوارئ عاجلة لإسعاف مريض في وضع حرج وإنقاذ حياته قبل إدخاله للتنويم في أسرة المستشفى لاستكمال التشخيص والعلاج. ومرحلة التنويم هذه تعادل المرحلة الثانية في علاج أزمة البلاد، وهي مرحلة إطلاق الحوار الشامل عبر آلية المائدة المستديرة أو غيرها، لتثبيت أركان أي إتفاق أو توافق يحدث في المرحلة الأولى، وتتبنى مشاريع وخطط محددة وبرامج تفصيلية تستجيب لمطالب الشارع وشعارات الثورة. المرحلة الثانية هذه، مرحلة الحوار الشامل، هو ما تسعى إليه وتعمل من أجله المبادرة الأممية لدعم الفترة الانتقالية في السودان، "يونيتامس" وقد أنجزت يونيتامس الفصل الأول من نشاطها ومضمونه قيادة عملية التشاور السياسي مع كل مجموعات وفصائل أصحاب المصلحة في السودان. ونحن في مقالنا السابق تناولنا هذا النشاط ولم نخف إعجابنا الشديد به، وكتبنا أنه عملية سياسية غير مسبوقة في تاريخ السودان الحديث، وذلك من حيث الشمول والمشاركة الواسعة في المشاورات، ومن حيث المنهج العلمي الذي اتبع في عملية التشاور وفي تحليل النتائج وتلخيصها في تقرير شامل ومحترم، سلط الضوء على الاهتمامات الرئيسية لأصحاب المصلحة، وعلى توجهاتهم، مثلما وفر أساسا جيدا لمزيد من التفكير حول مستقبل العملية السياسية في البلاد. أما بالنسبة للمرحلة الأولى، مرحلة التدخل الآني، فقد ضجت فضاءات المشهد السياسي بأحاديث عديدة حول مبادرات لتحقيق هذا التدخل، مبادرات داخلية وأخرى خارجية، بعضها حقيقي، ولكن معظمها مجرد ثرثرات، فيها البريء وفيها المشبوه، تملأ صفحات وسائط التواصل الاجتماعي. أعتقد، من حق الجميع، التقدم بمبادرات تساهم في علاج أزمة البلاد. ولكن، الشعب وحده هو الذي يحدد كيفية التعامل مع هذه المبادرات. والشعب السوداني المشار إليه هنا ليس مجرد مفهوم عام وتجريدي، وإنما المقصود آلية للتوافق بين المكونات من أحزاب ولجان مقاومة ومنظمات المجتمع المدني والقوى العسكرية. أما إذا رأى أحد هذه المكونات إقصاء الآخرين وأنه وحده الأحق باتخاذ القرار، فلتستعد البلاد لأزمة تتطاول تجلياتها وتتفاقم ربما حد الحرب الأهلية. وأما كيفية التعامل مع أي من المبادرات المطروحة فهذه تخضع لعدد من المعايير، الإخلال بها سيجهض المبادرة ويعجل برفضها، أو تأتي بنتائج معيبة، أو يتم تنفيذها بصورة مشوهة لا تعبر عن أمنيات وطموحات قطاعات الشعب المختلفة، خاصة القوى التي لها القدح المعلى في عملية التغيير، وبالتالي، بدل أن تكون المبادرة حلا للأزمة، تتحول لتلعب دورا في إعادة إنتاج الأزمة. والمعايير هذه، معظمها مستوحى من تجاربنا العديدة، بما في ذلك تجربة التفاوض حول الوثيقة الدستورية بين قوى الحرية والتغيير والمكون العسكري في العام 2019. أما المعايير المطلوبة لتحديد كيفية التعامل مع أي مبادرة وردة الفعل تجاهها، فأعتقد يجب أن تشمل: أولا، أن تطرح المبادرة علنا في النور وليس في الغرف المظلمة، وأن تتضمن معظم إن لم يكن كل مطالب الشارع التي ظل يقدم الشهيد تلو الشهيد من أجلها، مثل إلغاء كل القرارات التي صدرت بعد ذاك التاريخ، إعادة النظر في صيغة الشراكة المدنية العسكرية التي كانت قائمة، الإتفاق على إجراءات دستورية جديدة يتم بموجبها تعديل أو إلغاء الوثيقة الدستورية لسنة 2019 المعدلة 2020 واستبدالها بإتفاق دستوري جديد....الخ. ثانيا، أن يتم بحث المبادرة مع المفوضين من قبل أصحاب المصلحة من قوى سياسية ومدنية ولجان المقاومة، وليس مع أي مجموعات أخرى. ثالثا، أي مبادرة يجب أن تسترشد بقدسية مبادئ وميثاق ثورة ديسمبر/كانون الأول الخالدة، وقدسية مبدأ السيادة الوطنية ووحدة التراب السوداني على أساس الاعتراف بالتنوع والتعدد العرقي والثقافي والديني، وأن تأكد على الالتزام بمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان كما نصت عليها المواثيق والعهود الدولية، والالتزام بمواصلة تفكيك نظام الثلاثين من يونيو، بعد إعادة هيكلة لجنة "تفكيك وإزالة تمكين نظام 30 يونيو"، ورفدها بالخبرات والكوادر المؤهلة في التخصصات ذات الصلة حتى تتمكن من أداء عملها بصورة ناجزة وعادلة، مع تفعيل لجنة الاستئنافات لمراجعة قرارات اللجنة وفقا لدرجات التقاضي المقررة قانونا، والالتزام بتقديم كل الدعم المطلوب للجنة التحقيق الوطنية التي تحقق في جريمة فض الاعتصام، 2019 وتوجيهها للإسراع في إنجاز مهمتها، والالتزام بالتعجيل بإكمال التحقيق في الأحداث التي جرت أثناء التظاهرات الاخيرة، وتقديم الجناة للمحاكمة. رابعا، لا يمكن بحث أي مبادرة قبل تنفيذ كل الإجراءات الضرورية لتهيئة المناخ الملائم لذلك، والتي تتضمن: إطلاق سراح كل المعتقلين والموقوفين السياسيين، تجميد التهم التي طالت أعضاء لجنة إزالة التمكين وإطلاق سراحهم فورا على أن تبحث هذه التهم لاحقا في أجواء معافاة وفق الإجراءات القانونية المتعارف عليها، رفع حالة الطوارئ وإلغاء كافة القوانين المقيدة للحريات، التزام السلطات بعدم حدوث أي انتهاكات لحقوق الإنسان...الخ. خامسا، توفير الضمانات الإقليمية والدولية. في مقالنا القادم، سنناقش ماهية المبادرة الملائمة، والتي يمكن أن تحدث اختراقا في الحالة السياسية الراهنة، حسب وجهة نظرنا. صحيفة التحرير