في السودان يتفق الجميع على الإطلاق بأن وجود الدعم السريع هو بحد ذاته مشكلة؛ لأنه عبارة عن جيش موازي مستقل بالمعنى الحرفي للكلمة بموجب قانونه بعد التعديل الذي أجراه البرهان وقضى باستقلاله بشكل كامل عن الجيش. إلى هنا يبقى الدعم السريع مشكلة من صنع نظام البشير، ولكنه استقل بشكل شبه تلقائي منذ لحظة الانقلاب على البشير والذي شاركت فيه قوات الدعم السريع كقوة مستقلة عن الجيش؛ أي حينما تمت الإطاحة بالبشير لم تكن قوات الدعم السريع تخضع لأوامر قيادة الجيش ولكنها كانت تقف كقوة مستقلة لها رأي ودور في التغيير نفسه. لقد رأينا كيف اعترضت قيادة الدعم السريع على مجلس عوض ابنعوف؛ ذلك الاعتراض بحد ذاته تمرد على قيادة الجيش. بعد ذلك تم تكريس الدعم السريع كقوة مستقلة بموجب القانون بإلغاء المادة التي تنص على دمج الدعم السريع في الجيش وذلك قبل توقيع على وثيقة كورنثيا وتشكيل حكومة عبدالله حمدوك. حينما جاءت حكومة الثورة وجدت البلد بجيشين مستقلين. بعدها استمر تمدد الدعم السريع في مناخ ما بعد الثورة بكل ارتياح. وهو تمدد قانوني؛ فحينما يقول قادة الدعم السريع بأنهم يعملون بموجب قانون فهم لم يكذبوا في ذلك. هم لم يفعلوا شيئاً لم يمنحه لهم القانون، هذه حقيقة. فإذا كان الدعم السريع قد تحول إلى إمبراطورية خاصة بآل دقلو غير خاضعة لأي سلطة فذلك لأن قانونها قد منحها هذا الحق. ضمن هذا السياق تكون طموح حميدتي لحكم السودان، وهو نتيجة طببعية للوضع القانوني الذي وجد نسه فيه. فكل الأبواب مشرعة أمامه؛ لديه جيش يستطيع توسيعه باستمرار، لديه موارد مالية ضخمة، لديه وضعية دستورية وعلاقات خارجية، فلماذا لا يطمع في ابتلاع الدولة؟ الحقيقة هي أن ثورة ديسمبر أسقطت البشير وأطلقت الدعم السريع من عقاله ولم يكن باستطاعتها إعادة السيطرة عليه؛ وفي الواقع فإن الثورة لم تسقط النظام بل أسقطه انقلاب عسكري شارك فيه الدعم السريع وربما يكون هو صاحب الكلمة الأعلى فيه، فكيف يمكن لقوى الثورة أن تسيطر على الدعم السريع حتى لو كانت راغبة في ذلك؟ عملياً لم يكن ذلك ممكناً. فالدعم السريع هو من أطاح بالبشير وهو من قاده إلى السجن، هو العصا التي تتوكأ عليها قوى الثورة تريد أن تستخدمها ضد النظام، فكيف تستطيع أن تسيطر عليها وتفرض إدماجها في الجيش؟ لقد كان منطق الأشياء يفرض الدعم السريع كحليف وكحامي لقوى ثورة ديسمبر، فهو قد تحرر للتو من سيطرة الدولة بعد سقوط البشير، ولا يريد أن يعود إليها مجدداً، يريد أن يبني مملكته الخاصة، وعدوه هو الدولة العميقة والجيش على وجه التحديد؛ وقوى الثورة التي تبلورت في قحت في النهاية كانت بحاجة إلى حميدتي كحليف يحميها؛ لقد ذهبوا إلى حميدتي وبركوا له كما قال، وعرضوا عليه فترة إنتقالية تمتد لعشرة سنوات، ولكنه لسوء تقدير منه ولغباء قوى الثورة (ثورة ديسمبر كلها ثورة غبية قاعدتها رعاع وقيادتها أكثر رعاعية من قاعدتها) انقلب عليهم في 25 اكتوبر. بعد انقلاب 25 اكتوبر وجد حميدتي نفسه وجهاً لوجه مع الجيش ومع الدولة العميقة؛ لقد كان هناك صداماً مؤجلاً بين المؤسستين المستقلتين المتوازيتين منذ لحظة الإطاحة برأس النظام والتحفط عليه في مكان آمن؛ حيث أصبح ذلك النظام منذ تلك اللحظة بدون رأس حرفياً؛ ترك البشير منظومة عسكرية بثلاثة رؤوس، جيش، دعم سريع وهيئة عمليات. ساهم مناخ الثورة في التخلص من قوات هيئة العمليات، وهي قوات أكثر نظامية ومهنية بما لايقارن مع مليشيا الدعم السريع، فأصبحت المنظومة العسكرية برأسين متوازيين. شكلت سلطة الثورة وشكل مناخ الثورة الموجود في البلد عاملاً مبطئاً للتفاعل المفضي إلى الصدام بين الجيشين، ولكنها فشلت في حل مشكلة الجيشين لأن الثورةلها كانت أضعف من ذلك، لا تملك لا الإرادة ولا الرؤية للتعامل مع مشكلة تعدد الجيوش في البلد حيث هناك جيوش أخرى موقعة وغير موقعة على السلام. بعد انقلاب 25 اكتوبر الذي أجهز على ما يُسمى بثورة ديسمبر، وخيراً فعل، أصبحت المعركة المؤجلة أمراً حتمياً؛ لدينا جيشين ويجب أن يخضع أحدهما للآخر، لا مفر من ذلك. لا ننسى في هذا السياق انقلاب بكراوي وتململ الجيش من تزايد قوة الدعم السريع. حميدتي كان يتضخم يوماً بعد يوم بغرض التهام الدولة والسيطرة على السلطة، وليس بغرض جلب الديمقراطية. والجيش كان يراقب تمدد حميدتي منذ أيام البشير، ولا شك أن واقع تمدد الدعم السريع منذ أيام البشير مروراً بالإطاحة به وحكومة الثورة وما بعدها كان أمراً مزعجاً ومرفوضا للجيش، ولا شك أن الجيش يملك المعلومات والوقائع التي تؤكد سعي المليشيا لابتلاع الدولة بجيشها وبقية مؤسساتها. إستطاع البرهان احتواء انقلاب بكراوي لينقلب بعدها بفترة قصيرة بشكل مزدوج غلى الدعم السريع وعلى سلطة قحت بضربة واحدة وبمساعدة الدعم السريع نفسه في أغبى حركة يقوم بها حميدتي طوال حياته. بعد 25 اكتوبر أصبحت المواجهة مسألة وقت، الجيش يريد أن يدمج الدعم السريع، والدعم السريع اكتشف المأزق بعد 25 اكتوبر فندم عن حق ليس لأنه ديمقراطي ولكنه لأنه فرط في حلفاءه الطبيعيين، فأراد أن يصحح الخطأ وذهب ليتحالف معهم، ولكن هذه المرة ضد الجيش بصراحة. أخيراً أدرك الطرفان الدعم السريع ممثلاً في أسرة آل دقلو وقحت بقيادة ياسر عرمان بوضوح أنهما حليفان ومصالحمها تحتم ذلك. فجاء الاتفاق الإطاري الذي بدأه الجيش بهدف السيطرة على الدعم السريع، ولكن يبدو أن تحالفاً تم بين حميدتي وقحت قلب الطاولة على الجيش؛ ليجد الجيش نفسه في مفاوضات مع جيش موازي مستقل يسنده تحالف سياسي ويحظى بدعم خارجي باسم الديمقراطية. وما كان للجيش أن يقبل بشروط المليشيا وحلفاءها؛ فهو يريد من الإطاري أن يضمن له دمج الدعم السريع، ولكن الدعم السريع يريد هيكلة الجيش هو وحلفاءه ومن ثم السيطرة على الجيش والدولة باسم المدنية. لقد كان الاتفاق الإطاري عبارة مفاوضات بين الجيش من جهة والدعم السريع وحلفاءه من جهة أخرى، وكان محكوماً عليها بالفشل، لاختلاف وتعارض أهداف الأطراف. لقد كان حميدتي يستعد لما بعد فشل الاتفاق الإطاري، وخياره هو الانقلاب، ويبدو أنه متفق مع تحالف قحت، فقيادات قحت كانت تتكلم بثقة عن الخيارات البديلة التي ستلجأ لها حال فشل الإطاري، وأحدهم قال صراحة سنرفع السلاح. حشد حميدتي قواته في الخرطوم على مدار فترة طويلة سراً قبل أن يكتشفه الجيش، ولكن في النهاية أصبح يحشد بشكل علني، فكلنا شاهدنا دخول المدرعات إلى الخرطوم قادمة من دارفور ودخول أرتال ضخمة من الدعم السريع. الجيش كذلك كان يستعد وأجرى مناورات في العاصمة في وضح النهار. حينما فشلت ورشة الإصلاح الأمني والعسكري وتعثرت ما تعزف بالعملية السياسية كانت الخطوة التالية الحتمية هي الصدام، ويبدو أن الدعم السريع قد استعد لها جيداً. أما ما حدث بعد اندلاع الحرب، فهذا أمر آخر؛ ظهرت المليشيا بوجهها البربري الكالح وظهر حلفاءها من قحت على حقيقتهم. فشلت المليشيا في السيطرة على السلطة فدمرت البلد عن عمد واعتدت على المواطنين في الخرطوم ودارفور، وأسفرت عن وجه عنصري بغيض بعد فشل خطاب الديمقراطية وحاولت توظيف خطاب المركز-الهامش بشكل ازتجالي غير مؤسس وغير منسجم مع طبيعتها وتاريخ تطورها. ظهر الدعم الخارجي للمليشيا من وراء ظهر الجيش والدولة فهي جيش مستقل له تسيلح مستقل وعلاقات مستقلة، فهي تمتلك مسيرات وتسليح لا يمر عبر الجيش وأجهزة اتصال وتجسس ومعدات بشكل مستقل تماماً؛ جيش موازي. فشل الدعم السريع في الحرب وفشل سياسياً قبل ذلك، لأنه مخالف لطبيعة الأشياء ولا يصح إلا الصحيح. ولكن الدعم السريع هو أيضاً مشكلة وضحية في نفس الوقت، ضحية لفشل الدولة ولفشل القوى السياسية قبل أن يكون ضحية لطموحات آل دقلو ومغامرات القحاتة ورهاناتهم الغبية الخاسزة. الحل يبدأ من إنهاء تمرد الدعم السريع والإقرار بأن الجيش هو القوات المسلحة لا غير، وأن تُعالج مشكلة الدعم السريع كمشكلة عسكربة بحتة بموجب ترتيبات عسكرية وفقاً لإرادة الجيش لا إرادة آل دقلو. بعد ذلك لابد من فتح المجال السياسي لكل قوى الشعب السوداني لمناقشة مشكلات الدولة بكل حرية وعدالة بعيداً عن بندقية الجيش ولا أقول بندقية المليشيات لأن المليشيات يجب أن تختفي داخل الجيش. من يريد المشاركة في حل سياسي عليه أن يضع البندقية ويأتي ليجلس في طاولة حوار شامل مع كل السودانيين من أجل حل مشكلات الدولة، حوار وطني دون إملاء أو وصاية من أحد. حليم عباس مواضيع مهمة علاج الحمى في الطب النبوي مشكلة مص الإصبع التفاح الأخضر .. فوائد الضغط في العمل كيف نتناول الكزبرة؟ ميكب خدود البشرة الداكنة