ذاك الزمان كان الناس علي فطرتهم . التاسعة مساء يخلدون إلي النوم و لا تسمع في الطرقات إلا بعض نباح كلاب متقطع او اصوات قطط متشاكسة . مع نسمات الفجر و بعيد الأذان الثاني نسمع مزلاج الباب و هو يفتج بهدوء . و خطوات علي الأرض و كأنها تلامسها في رفق . حفيف منغم و كأنما صاحب المسير يحادث ما يمشي عليه حتي يبلغ منتهاه . ثم تقام الصلاة و كانما الذي سمعناه سيمفونية مرتبة موزعة النغمات . كانت تلك خطوات الشاب العابد عمنا عمر عبد الوهاب . كل شئ منتظم حياة ليس فيها غير عبادة خالصة لا تعرف طريقا لمضارب اللهو و التسلية . إنتظام في اليوم و الليلة و الأسبوع و الشهر . اليوم كل الصلوات في المسجد عدا الظهر في موقع العمل . و في اليوم ساعة بعد العصر في مدارسة يوم لتفسير إبن كثير و يوم للفقه من كتاب نيل الاوطار للإمام الشوكاني و بعد المغرب حلقة التلاوة في المسجد . الجمعة يومها حافل رحلة إلي حي السجانة حيث الحلقة الراتبة في السيرة يقدمها الشيخ الصافي جعفر الصافي في منزله . ذاك يوم بطعم سوداني خالص تنسجه إمرأة سودانية خالصة هي السيدة بنت المدني والدة الشيخ الصافي . رغم سنها فقد كانت سابقة للنساء اول إمراة أراها تقود الدراجة . كل جمعة تقود دراجتها إلي السوق لتات محملة بذاك الإفطار الذي لا ينسي . قراصة تسميها ( خمسة بوصة ) دلالة علي سمكها . صحن كبير عليه القراصة ذات المذاق الفريد و يعقبها البطيخ البارد شديد الحمرة و كوب شاي يظل طعمه عالقا بالفم طوال اليوم . يوم الجمعة عند عمي و اخي عمر لا يخرج عن ذلك الا بخطوات لشراء مجلة ( العربي ) و هي من اروع المجلات التي تعلمت منها القراءة النضرة . كان عمي عمر شديد الإعجاب برئيس تحرير المجلة و هو الكيميائي المصري الدكتور أحمد زكي . كان للدكتور أحمد زكي مقالات تتراوح بين عنوانين ( مع الله في الأرض ) و ( مع الله في السماء ) . علم غزير في أسلوب سلس جذاب مشوق يربط حقائق العلم بالايمان فقد كان الرجل عالما تسنم الكثير من المواقع العلمية منها رئاسة جامعة القاهرة . *القراءة* كان عمي عمر مرتب في كل شئ يومه الموزع بين العبادة و المدارسة و صلة الرحم و في مطالعته فقد تخير ما يسكن إليه من المطالعات و الكتب . إضافة لكتابي المدارسة في التفسير و الفقه فقد رايت كتابا دائما ما يقراه لم اره عند غيره و هو كتاب يعكس شخصيته المتعمقة في التعبد بتبصر ذاك كتاب ( الرعاية لحقوق الله ) للعالم ابو الحارث المحاسبي . في السيرة تخير ان يقرا عن العلامة العابد الزاهد عبد الله بن المبارك و من شعره الابيات المشهورة . يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت انك بالعبادة تلعب من كان يخضب جيده بدموعه فرقابنا بدمائنا تتخضب *المعايشة* لا تعني هذه السيرة المتميزة ان الرجل كان منصرفا وزاهدا عن الحياة و الناس . كانت له صلات و صداقات بشخصيات متعددة منهم من كانوا علي غير المالوف من الصفات و لكنهم كانوا ينطوون علي خير كان ينتقيهم و يحبهم . راج بين الاسرة ان عمي عمر و والدي متخاصمان و كانا لا يسلمان علي بعضهما و تكاد الصلة بينهما تكون مقطوعة . كنت علي يقين ان هذا الخلاف مفتعل و ذلك بسبب ان والدي كان شيوعيا و عمي إسلاميا . و لما كنت مقتنعا ان عمي لن يخذلني فقد ذهبت لوالدي و قلت له لماذا تخاصم اخيك ؟ قال لي انا لم اخاصمه و إنما هو من يفعل فقلت له إذا سياتينا غدا لنشرب الشاي عصرا . و كانت جلسة تاسفت انها لم تكن مصورة . و نحمد الله ان والدي توفي و كان لسانه رطب بذكر الله و الشهادتين . *زواجه* كان الناس يظنون ان حفل زواجه سيكون جامدا جافا لا فرح فيه . اعد لزواجه في صمت و جاء إحتفاله فريدا . فقد تزوج بنت خالته التي كان يجلها و هي من توتي فاعد سيرة لا مثيل لها خرج الناس عصرا من البيت في بري في سيرة و غناء و النساء يحملن جريد النخل إلي نهر النيل الازرق قرب الشرطة في بري المحس حيث كان البنطون في إنتظارهم . فواصلوا الغناء و الطرب و البنطون يمخر عباب النيل . عند بلوغ توتي طاف البنطون بنا حول الجزيرة فكان منظرا خلابا ينظر إليه الناس من الضفتين فرحين مستبشرين . *العمل الإجتماعي* . غادر عمي عمر للعمل في سلطنة عمان و عاد و قد اسس بيته و تفرع لعمل إجتماعي واسع كان كل يومه مسخر لخدمة الحي و أهله مضي و قد خلف بيننا صورة للعبادة و حب الخير للناس و خدمتهم و صلة الرحم و صفات قلما تجتمع في رجل لا يعرف كلمة فاحشة واحدة و لكنه يحب الكلم الطيب العفيف اللطيف . يحب من كل شئ الحسن الرقيق الذي تتقبله النفوس . كان يعجب بصوت الفنان احمد الجابري و كان يقول لي لو ان هذا الرجل رتل القرآن لاخذ بقلوب الناس . و من طربه للكلمات اني كتبت له في رسالة عبارة ( أسأل الله ان تكون في نعيم لا ينسي نعيم الآخرة ) فطرب لها كثيرا . سمي ابنه البكر ( أنس ) علي الصحابي الجليل خادم رسول الله أنس بن مالك ثم أتبعه بأسماء إخوة انس و كلاها ذات دلالة احمد رسول الله ثم اكرم و النور علي شقيق زوجته وفاء لها *وفاته* قبر العم العزيز الغالي في الجريف شرق حيث من بقي من الاهل الذين حرمتنا الحرب اللعينة ان نشهد معهم جنازته و قبره .و منعت اهل توتي الذين يحبهم كثيرا فقد حبسهم الاوباش من الترحم عليه في قبره . لك الرحمة و المغفرة يا من تعلمنا منه رحابة الصدر و خالص المودة و العفة في كل شئ . راشد عبد الرحيم مواضيع مهمة ركوب الخيل لا يناسب الجميع؟ أيهما أصعب تربية الأولاد أم البنات؟ جسر الأسنان هل تعقيم اليدين مفيد؟ الكركم والالتهابات أفضل زيوت ترطيب البشرة