الراي3 الضائقة المعيشية ...الاتجاه المعاكس للوحدة !! إدريس حسن (الجيوش تسير على بطونها)..هذه المقولة تعتبر من ابجديات الاستراتيجية العسكرية،ومعنى هذه المقولة يتمثل في ضرورة تأمين الجبهة الداخلية وتوفير الغذاء ومعينات الحياة الاساسية قبل خوض المعارك العسكرية،اي ان توفير الغذاء للمقاتل يفوق في اهميته توفير الطلقات والذخيرة،وهذه الفرضية لا تتوفر إلا بتماسك الجبهة الشعبية الداخلية وهي تقوم بإسناد الجيوش المقاتلة وتوفير الانتاج الذي يكفل التماسك الاقتصادي للمجتمع وللجيوش معاً. هذا الأمر شهدناه في عدة نماذج في العالم ، ففي حرب ڤيتنام والتي سعى فيها الشعب الڤيتنامي لاستعادة وحدة دولته ووحدة اراضيها والتي قسمتها الصراعات الدولية الى دولتين شمالية وجنوبية..في تلك الحرب التاريخية شهدنا كيف كان المزارع الڤيتنامي ينتصب واقفاً ويعمل جاهداً في حقول الارز رغماً عن القصف الوحشي الذي تمارسه عليه الطائرات الامريكية المغيرة، هذا المزارع كان يرى ان حبيبات الارز التي يجنيها من تلك الحقول لا تقل شأناً عن الذخيرة اللازمة للبنادق التي في ايدي المقاتلين. هكذا كان الشعب الڤيتنامي يقاتل من اجل وحدة بلاده ...هذا النهج العسكري في استعادة وحدة الوطن أصبح في بلادنا تراثاً من الماضي لا نريد له ان يعود ، فاتفاق السلام التاريخي الذي تم توقيعه في ضاحية نيفاشا وعُرف فيما بعد ب(اتفاق السلام الشامل) قد خلق آلية سلمية وحضارية تكفل لابناء الجنوب حق تقرير مصيرهم عبر الاستفتاء المزمع قيامه في يناير القادم ، إلا أن الدرس الڤيتنامي يبقى قائماً، فمهر الوحدة عبر هذه الآلية السلمية يتطلب كذلك إسناداً من الجبهة الداخلية قوامه ثبات واتزان الوضع الاقتصادي للدولة وكفالة العيش الكريم لكافة فئات الشعب...خاصة السواد الاعظم من الناس. وثمة مثال آخر يؤكد على أهمية الوضع الاقتصادي للمواطن في انجاز وحدة الوطن،فالتجربة الألمانية في إدراك وحدة دولتي المانيا بعد ما يفوق الاربعين عاماً من الانفصال تقدم نموذجاً حياً على علاقة الاقتصاد بالآمال القومية ، فقد ظل الشعب الالماني منقسماً بين شطرين وبين دولتين هما المانياالغربية التي تنتهج النظام الرأسمالي وتتمتع بالحماية من قبل حلف الناتو، وألمانيا الشرقية التي تنضوي في منظومة الدول الاشتراكية وتحتمي بحلف وارسو.كان التباين الاقتصادي في الاوضاع المعيشية بين ألمان الغرب وألمان الشرق كبيراً وشاسعاً،فالغربيون من الالمان استطاعوا ان ينهضوا من ركام وانقاض الحرب العالمية الثانية ليحققوا أعلى معدلات الرفاه والرخاء الاقتصادي بينما اخوتهم من الالمان الشرقيين كانوا يعيشون عيشة الكفاف ويعتمدون على المنح الاقتصادية الشحيحة التي يقدمها الاتحاد السوڤيتي ، والذي راح يستغل قدرات العلماء والكوادر الالمانية في مجالات التقدم التقني ،وكذلك موارد الشطر الشرقي من المانيا ويوظفها في بناء صناعاته وتطوره التقني ولا يمنح اهل ذاك الشطر سوى الكفاف.كانت زجاجة الكولا وبنطلون (الجينز) والسجائر الغربية على ضعف قيمتها تمثل في نظر الالماني الشرقي قمة الرفاه الاقتصادي الذي يتطلع له ، وهو ينظر الى اشقائه في الشطر الغربي وهم ينعمون بما هو اكبر من ذلك بكثير مثل عربات المرسيدس والمصانع الضخمة التي تمنح أجوراً عالية للعاملين الى جانب الحريات السياسية والرخاء الاقتصادي. وعندما بدأ عقد المنظومة الاشتراكية في الانفراط وراحت الدول الشيوعية تتساقط كما قطع الشطرنج ادرك حينها المستشار الالماني هلموت كول أن ساعة الوحدة قد حانت وأن ثمارها باتت دانية.نظر المستشار كول وحكومته اول ما نظر الى الوضع الاقتصادي في كلى الشطرين الغربي والشرقي،وأدرك أن تحقيق الوحدة يتطلب ترتيبات اقتصادية حيوية ومطلوبة ،منها كفالة حق العمل لكافة ابناء الشرق الالماني الذين سينضوون في الدولة الموحدة،وضرورة نقل العديد من المصانع الى الشرق لتوظيف الايدى العاملة هناك ، بل مضى أكثر من ذلك حين راح يغري موسكو بمنح اقتصادية تصل إلى مليارات الماركات قرباناً للوحدة الألمانية التي ظلت هاجساً في ضمير الشعب الالماني في الشطرين معاً. هذا النموذج الآخر نسوقه ايضا لندلل أنه حتى الوحدة السلمية لها فواتيرها واستحقاقاتها المالية الباهظة،ولا يظن احد أننا حين نورد هذا النموذج نريد شراء وحدة السودان بالمال،ولكن علينا أن ندرك أن مناخ الوحدة يتطلب قدراً معقولاً من الاداء الاقتصادي الموجب الذي يعطي زخماً ضرورياً للخيار الوحدوي،فالتطلع للوحدة والضائقة المعيشية التي نعيشها لا يركبا على سرج واحد..بل هما يمضيان في اتجاه معاكس ومتصادم. إن الأوضاع المعيشية الضاغطة والخانقة التي يعيشها معظم ابناء الشعب في مختلف أقاليم السودان ،ويستوي في الاكتواء بها ابناء الشمال والجنوب معاً..هذه الأوضاع لا تساعد ولن تساعد في جعل الوحدة خياراً راجحاً..اننا حين نطالب الحكومة الاتحادية وحكومة الجنوب بايلاء أمر الاقتصاد و(معايش الناس) هذه الاهمية المطلوبة ، لا نرمي من وراء هذا الى رفع معدلات السخط عند الناس،ولا نرمي كذلك الى (حشر الاعواد) في عجلات الوحدة التي يتسارع وتيرة دورانها، فالإمعاء الجوعى والبطون الخاوية والاجساد الهزيلة والنفوس المجهدة بفعل الاعباء المالية المتعددة وبفعل كساد الاسواق وارتفاع أسعار السلع...كل هذه العثرات في الشأن الاقتصادي لن تنتج مناخاً وحدوياً مواتياً ، إذ من الصعب استنفار القوى الشعبية وحشدها في تحدي الوحدة وهي مثقلة بكل هذه الجراحات المعيشية.. آن للحكومة وهي تخوض معركة الوحدة ان تلتفت الى هذا الشق الاقتصادي وتعمل على رفع هذه الاعباء وتلك الاثقال المعيشية التي تصرف انظار الناس وتكبل خطوهم وتردهم عن الانفعال الوطني بقضية الوحدة.إن العمل على ضبط الاسواق وكبح غلاء اسعار السلع الاساسية هو سهم في كنانة الوحدة. إن توفير جرعة العلاج بثمن معقول في متناول العامة،بعيداً عن إبتزاز المؤسسات الصحية الاستثمارية الخاصة،هو رصيد مضاف للوحدة. كذلك حماية المواطن من تعسف الجبايات الولائية التي ادمنتها تلك الاجهزة الولائية،والتي يظن بعض ادارييها انها اصبحت جمهوريات مستقلة لا تخضع للمركز، هذه الحماية وإماطة اذى هذه الجبايات يعزز من انفعال الناس الايجابي بمشروع الوحدة . أيضا مراجعة أسعار الخدمات الأساسية والحرص على توافرها من كهرباء وماء ووسائط المواصلات وكلفة الاتصالات والرسوم والدمغات الباهظة التي تفرضها اجهزة الدولة نظير كل ختم يستوي على الاوراق والمستندات..هذه المراجعة تخلق مزاجاً ايجابياً عاماً يمكن توظيفه لإعلاء خيار الوحدة.وفي ذات الاتجاه فإن الاستحقاقات التنموية المطلوبة لاقناع الناس بجدوى الوحدة سيتبدد اثرها وزخمها ما لم يحسها المواطن العادي في رخاء طعامه المتواضع وفي كساء وتعليم اطفاله وفي جرعة دوائه. إن مهر الوحدة واستحقاقها الأول هو مراجعة السياسات الاقتصادية ورفع البلاء عن معايش الناس وأقواتهم. وبعد يجدر بنا ان نذكر اننا سبق ودعونا مراراً وتكراراً،ودعا غيرنا كثيرون انه قد آن الاوان ان تعيد الحكومة النظر في سياساتها الاقتصادية ذات المنهج المتردي في التعامل الاقتصادي ، والتى اثبتت فشلها بدليل الاوضاع الراهنة التي يعاني منها المواطنون الذين ما عادت لهم القدرة على مواجهة تلك السياسة.. والتي لم يجن منها الاقتصاد غير الخراب والدمار للمؤسسات الاقتصادية والصناعية بفعل سياسة التحرير الاقتصادي وما تبعها من تحرير للاسعار كاد ان يعيدنا الى عهد الندرة ، بكل مافيها من تشوهات ووسائل غير قانونية واخلاقية تتمثل في السوق الاسود الذي كان ذات يوم عاملاً سياسياً في تغيير نظام الحكم في البلاد . ولعل اوجه الخلاف أن السوق الاسود فى الماضي كان يشكل مخالفة للقانون تستوجب العقاب اما السوق الاسود الآن فانه يعمل تحت حماية القانون ... قانون تحرير الاقتصاد والتجارة التي لم تجنِ منها بلادنا سوى الخراب و لسان حال مواطنيها يردد دوماً ( السودان طار راح ) ونحن نخشى ان تطير أشياء اخرى عزيزة علينا..!! الصحافة