هناك فرق المسافة الرئاسية! منى أبو زيد طلعت زكريا مواطن مصري يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ويجسد الشخصيات الكوميدية في الأفلام.. منها شخصية طباخ الرئيس في فيلم يحمل ذات الاسم.. ويتناول (تحسن) علاقة رئيس الجمهورية بهموم شعبه بعد علاقة الصداقة التي توطدت بينه وبين طباخه الخاص.. وكدا .. بعد نجاح الفيلم أصيب زكريا العام الماضي بمرض عضال، تطلب علاجه نفقات باهظة فأصدر رئيس الجمهورية سيد الاسم قراراً بعلاجه على نفقة الدولة.. تماثل الرجل للشفاء وطويت صفحة المرض.. وانصرفت الصحف والقنوات الفضائية إلى شؤون أخرى طازجة! قبل أيام عادت صور الرجل لتتصدر عناوين الصحف الرئيسية وتمت استضافته في معظم البرامج التلفزيونية على كل القنوات.. أما السبب فإنه استيقظ ذات صباح على مكالمة هاتفية من رئاسة الجمهورية تدعوه لزيارة السيد الرئيس! وهكذا تفاقم الجنون الإعلامي.. كلما ضغطت على زر الريموت كنترول باحثاً عن قناة مصرية.. في الأيام الماضيات وربما حتى اليوم.. وجدت السيد طلعت زكريا يجالس بحبور مذيعة أو مذيعًا محتشد الحواس مبهور الملامح فيما يشبه الخشوع.. وموضوعهما الرئيس بالطبع هو (شمار) كل ما دار بين مبارك وزكريا من (ونسة) لذيذة! السيناريو كبير ومليء بالتفاصيل.. من نهوض الرئيس من خلف مكتبه وفتحه ذراعية على اتساعهما لاحتضان فنان من عامة الشعب.. إلى مشاهد العناق والقبلات المؤثرة.. إلى آخره بالطبع! بعد جلسة زكريا مع الرئيس علم الشعب أن رئيسهم يعيش على إفطار متقشف جدًا (بقسماط .. جبنة .. شاي) أما الغداء ف (قطعة صغيرة من السمك والأرز).. وليس (أربعة كيلو جمبري) كما ورد على لسان إحدى شخصيات الفيلم إياه! أما زكريا فقد أخبر وسائل الإعلام - بفخر لم يجتهد في السيطرة عليه - أنه قد تحدث مع رئيس الجمهورية عن معاناة الشعب مع رغيف الخبز وازدحام المواصلات وغلاء الأسعار.. وهكذا وبعد أن أخذ النجم السينمائي صورة تذكارية مع رئيس الجمهورية.. انصرف سعيداً وذهنه (ينتح) بما سيقوله لوسائل الإعلام عن أغلى وأهم ساعتين في حياته كلها! حسناً.. بلى الرئيس مبارك معروف بانتباهاته اللطيفة ولفتاته الهاتفية المشجعة مع لاعبي المنتخبات الرياضية الوطنية قبل دخول المنافسات.. ومع كل من يشرع في تمثيل مصر أمام العالم في أي مجال وفي كل محفل.. ومع غيرهم طبعاً.. ولكنه أيضاً شحيح الظهور في لقاءات مباشرة.. وهذا الشح أضفى على وجوده الفيزيائي بالقرب من أي مواطن الكثير.. الكثير من الرهبة والعظمة ربما! من حقنا أن نفاخر بأننا السودان لا تطغى علينا ثقافة الأسوار العالية التي تحجب الحاكم عن عامة الشعب.. وهو أمر مبعثه طبيعة الشخصية السودانية نفسها.. فهي تميل بطبيعتها إلى البساطة ولا تنتهج التعالي (إلا قليلاً!).. مثلاً.. من المشهود به جداً للرئيس البشير قربه الشديد من الناس وفي كل المحافل.. حتى أنك كثيراً ما تجده في بيت عزاء.. أو مجلس عقد.. يجالس الناس باطمئنان.. وثقة! لن تجد عندنا أبداً مثل ذلك الخبر الذي ملأ مصر وشغل ناسها... لن تجده يتصدر عناوين صحفنا أو يشغل حيزاً من وقت إعلامنا المرئي.. لأنه ببساطة قد يحدث عندنا كل يوم.. فيمر مرور الكرام! تحدثنا كثيراً عن مثالب الشخصية السياسية السودانية.. وأسهبنا - غير مرة - في تفكيك عيوبها ونقاط ضعفها.. لكن الأكيد أننا شعب لا يؤمن بثقافة الأبراج العاجية.. هي على كل حال - نعمة شعبية.. وميزة (رئاسية) نسأل الله أن يحفظها من الزوال! التيار