(أبيار علي) هل أنشأها سلطان دارفور علي دينار؟ د. حيدر عيدروس علي [email protected] بكى سيف الله خالد بن الوليد - رضي الله عنه - لما حضره الموت، وقال: لقيت كذا وكذا زحفا، وما في جسدي شبرٌ إلا وفيه ضربةٌ بسيف، أو طعنةٌ برمح، وها أنا أموت على فراشي حتف أنفي، كما يموت العير، فلا نامت أعين الجبناء[1].اه. هكذا غادر سيف الله هذه الدنيا، بعد أن محا الإسلام ظلام الجاهلية في فكره، ولم يكن يهمه كيف يعيش، بقدر ما كان يهمه كيف يموت، وفي أي الفريقين يبعث؟ وتلك هي بذرة الحياة الخالدة التي غرسها الصالحون من أمثاله، ورعاها أولو الألباب من التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، والعاقل لا يبالي حين يقتل مسلما على أي جنب كان في الله مصرعه. وقد نبتت هذه البذرة نباتا حسنا، أينع ثمره في حياة الأبطال من هذه الأمة، الذين بحرصهم على الموت وهبت لهم الحياة بعده، فكان من بين أولئك النفر الكريم السلطان علي دينار بن زكريا بن محمد فضل، سلطان دارفور، فقد مات تلك الميتة التي بذر سيف الله - ورفاقه الأبرار - بذرة حبها في قلوب المسلمين، إذ انتقل السلطان علي دينار إلى الدار الآخرة مقتولا برصاص المستعمر الانجليزي، في فجر الحادي عشر من شهر الله المحرم في سنة خمس وثلاثين وثلاث مئة وألف من الهجرة المباركة، وهو في صلاة الفجر، ولما كانت العبرة بالنهايات والخواتيم فبمقتله بدأتُ، فأسأل الله أن يحشره في زمرة الشهداء، وإذا كان سُلطانُنا - رحمه الله - قد جاهد في الله إلى أن مات في سبيله، في أعز وقت من الأوقات، فستصغر أمام ذلك جلائل أعماله مهما عظمت، لأنه قد صعد على ذروة سنام الأمر؛ الجهاد في سبيل الله. ولد السلطان علي دينار في قرية (شوية) بدارفور، ولم تسعفني المصادر بتاريخ ولادته، وعاش حميدا، رفع الله قدره، لارتفاع الفضيلة في وجدانه، إذ لم تكن دارفور هي همه الوحيد، بل لم يكن قلبه على السودان فحسب، إنما كان قلبه على المسلمين كافة، فقد مهد طريق الحجاج القادمين من بلدان إفريقيا الغربية، القاصدين لبيت الله الحرام والأراضي المقدسة، وجعل من مَلِّيطَ[2]، والفاشر[3]، وغيرهما من المحطات رحابا آمنة يجد فيها الحاج من الراحة، والمتعة، والجمال ما يسر به، وذلك هو ما عبَّر عنه الشاعر الفحل محمد سعيد العباسي - رحمه الله - فقال في مليط:- حياكِ مَلِّيطُ صَوْبُ العارضِ الغادي وكم جادَ واديكِ ذا الجناتِ من وادي كم جلوتِ لنا من مَنظرٍ عَجَبٍ يُشْجي الخَلِيَّ ويَروي غُلَّةَ الصادي وهي قصيدة من عيون الشعر السوداني، تصور روعة الجمال في السودان؛ قلب إفريقيا النابض، ذلك الجمال الذي استمتع به أهل دارفور، والواردون إليها من حجاج بيت الله الحرام، وغيرهم، وهو ما رعاه آنذاك السلطان علي دينار، ورفاقه من أصحاب السلطة والنفوذ، من سلاطين القبائل، وأعوانهم من أهل تلك الرحاب. وقد اتسع تفكير السلطان علي دينار ليحمل هم المسلمين الأكبر في تحقيق الوحدة الإسلامية، فلم ييأس - على الرغم من ضعف الخلافة العثمانية في أيامها الأخيرة - أن يقف معها، ويجتهد في مؤازرتها، ولم يهن، لأن وجودها - على ما يبدو فيها من ضعف في النفوذ، وانحراف عن الجادة - كان يمثل وحدة المسلمين، وقد تضافرت جهوده في هذا الشأن مع جهود السنوسيين، ولكن الآلة العسكرية للمستعمر كانت أشد فتكا. حاول السلطان علي دينار أن يبسط سلطانه على دارفور، وعلى غيرها من ربوع السودان كافة، وهذه الثقابة في الذهن، والتقدم في التفكير، هو الذي حفَز الإنجليز للتصدي له، من أجل تحطيم هذه الأفكار المتقدمة، فسعوا للقضاء عليه. وللسلطان علي دينار مآثر جمة، مما صحت نسبتها إليه، لا يسع المجال لذكرها، بيد أنني كنت فرحا مسرورا بإحدى تلك المآثر، وهي التي تذكر بأن آبار علي - في ميقات ذي الحليفة، بقرب المدينةالمنورة - منسوبة إليه، وللتحقق من ذلك فقد حاولت أن أوثق هذه المعلومة حتى أقدمها لمن يطلبها، من المصادر التي ذكرتها. ولكنني وجدت أن هذه التسمية تقدمت كثيرا على التاريخ الذي عاش فيه السلطان المجاهد علي دينار رحمه الله، مما جعلني أقطع بأن نسبتها إليه غير صحيحة، فقد ورد ذكرها بهذا الاسم قبل ولادة السلطان بقرون عديدة، وذكرتها الكتب الآتية، التي رتبتها حسب تواريخ وفيات مؤلفيها، وهي:- 1 - مجموع الفتاوى (26/99-100)، لشيخ الإسلام أبي العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية، المتوفى سنة ثمان وعشرين وسبع مئة من الهجرة المباركة، وجاء فيه: فذو الحليفة هي أبعد المواقيت، بينها وبين مكة عشر مراحل، أو أقل، أو أكثر؛ بحسب اختلاف الطرق، فإن منها إلى مكة عدة طرق، وتسمى وادي العقيق، ومسجدها يسمي مسجد الشجرة، وفيها بئر تسميها جُهَّال العامة: بئر علي، لظنهم أن عليا قاتل الجن بها، وهو كذب، فإن الجن لم يقاتلهم أحد من الصحابة، وعلي أرفع قدرا من أن يثبت الجن لقتاله، ولا فضيلة لهذه البئر، ولا مذمة.اه. وورد نحو هذا الكلام في الكتب الآتية:- 2 - فتح الباري بشرح صحيح البخاري (3/385)، للحافظ شهاب الدين أحمد بن علي بن حجر العسقلاني المتوفى سنة اثنتين وخمسين وثمان مئة. 3 - عمدة القاري في شرح صحيح البخاري (25/62)، لبدر الدين محمود بن أحمد العيني، المتوفى سنة خمس وخمسين وثمان مئة. 4 - أسنى المطالب في شرح روض الطالب (1/459)، لشيخ الإسلام زكريا الأنصاري، المتوفى سنة ست وعشرين وتسع مئة. 5 - مواهب الجليل بشرح مختصر خليل (3/30)، لأبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن المغربي المالكي. 6 - البحر الرائق شرح كنز الدقائق (2/341)، لزين الدين ابن نجيم الحنفي، المتوفى سنة سبعين وتسع مئة. 7 - الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة(1/416)، للملا نور الدين علي بن سلطان محمد الهروي القارئ المكي، المتوفى سنة أربع عشرة وألف. وقد تكرر كلامه في كتابيه: مرقاة المفاتيح (3/381)، والمصنوع في معرفة الحديث الموضوع (1/272). 8 - الفواكه الدواني من رسالة ابن أبي زيد القيرواني (1/353)، للعلامة أحمد بن غنيم النفرواي، المتوفى سنة خمس وعشرين ومائة وألف. 9 - كشف الخفاء ومزيل الإلباس عم اشتهر من أحاديث على ألسنة الناس (2/564) للعلامة إسماعيل بن محمد العجلوني المتوفى في سنة اثنتين وستين ومئة وألف من الهجرة المباركة. هذا وقد ورد نحو ذلك في سائر شروح رسالة ابن أبي زيد القيرواني سوى الفواكه الدواني، وكذلك في سائر شروح مختصر العلامة خليل المالكي سوى مواهب الجليل، وفي كتب أخرى كثيرة، وهو ما يثبت أن هذه التسمية تقدمت كثيرا على الفترة التي عاش فيها السلطان الشهيد - بإذن الله - علي دينار، كما أسلفت. ومع ذلك فلا يبعد أن يكون السلطان علي دينار قد أسهم في إعادة تأهيل هذه الآبار وتجديدها، بعد أن تعطلت في فترة من الفترات، إذ اشتهر السلطان بحبه الفياض للأراضي المقدسة، وثبت أنه كان يكسو الكعبة في سنوات كثيرة، ولا منة لنا نحن أحباب السلطان في ذلك، إذ هو فضل الله الذي تفضل به علينا أن جعل أحد قادتنا الكرام ممن يفعل ذلك، فرحم الله السلطان، وأجزل له الثواب على ما قدم. إن العمل على توثيق المعلومة قبل تصديقها، وبثها للمتلقي مطلب شرعي ينبغي أن يحرص عليه القائمون على الإعلام الإسلامي، وقد وجدتُ هذه المعلومة مبثوثة في مواقع إسلامية كثيرة على الشبكة الأثيرية، وهي مواقع يرتادها الناس لأخذ المعرفة، فهل حرص القائمون عليها على تمحيص الأخبار، قبل عرضها؟ فقديما قيل: وما آفة الأخبار إلا رواتها. [1] تهذيب الكمال للحافظ المزي (8/189). [2] مليط بلدة جميلة طيبة الهواء، تقع إلى الشمال من مدينة الفاشر. [3] الفاشر من المدن السودانية العريقة، وهي الآن حاضرة دارفور الأولى.