منذ يوم أمس الخامس عشر من شهر يناير 2011 وهو اليوم الأخير من أيام التصويت في الاستفتاء على حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان قررنا في مبادرة (لا لقهر النساء) ارتداء ملابس الحداد إما ثيابا بيضاء أو ملابس سوداء تماما وسنستمر كذلك حتى موعد الإعلان النهائي لنتائج الاستفتاء في الرابع عشر من شهر فبراير المقبل، قررنا ذلك لنعبر لشعب جنوب السودان عن حزننا العميق لفراقهم رغم مباركتنا لممارسة حقهم الإنساني والديمقراطي في تقرير مصيرهم، أردنا أن نجعل من الحداد والحزن مظهرا يعكس نبض الحياة في الشارع السوداني، ويعكس التفاعل الحي لنساء السودان مع أكبر وأخطر حدث في تاريخه المعاصر، وأردنا أن نقول لكل العالم أن شمال السودان ليس كتلة صماء مجتمعة على موقف واحد ورأي واحد تجاه جنوب السودان، ففي الشمال قوى خيّرة مستنيرة تبغض العنصرية، وقوى ديمقراطية تنشد التغيير في بنية الدولة السودانية لصالح القوميات المهمشة في البلاد وعلى رأسها شعب جنوب السودان، وفي الشمال من هو مستعد للقتال من أجل إنصاف المهمشين جنوبا وغربا وشرقا، وفي الشمال من يعتقد جازما أن مصلحة الشمال نفسه واستقراره وازدهاره ووحدته تكمن في الإصلاح الجذري باتجاه الديمقراطية والتنمية المتوازنة والعدالة الاجتماعية وإنصاف المهمشين والمظلومين، وفي الشمال من يرى في التنوع الثقافي والتعددية بكل أشكالها دينية أو فكرية أو سياسية مصدرا للغنى والثراء والقوة وليست مدعاة للفرقة والتجزئة، لقد قررنا ارتداء ملابس الحداد وإظهار الحزن لكي نقدم لشعب الجنوب كلمة وداع واعتذار كنا نحلم بأن تقال له في سياق عملية تاريخية للحقيقة والمصالحة تحقق التصافي والتعافي وإبراء الجراح وإزالة الاحتقان، والدعوة موجهة لكل النساء السودانيات أن يرتدين الثياب البيضاء أو الملابس السوداء طيلة أيام الشهر المقبل وحتى موعد إعلان نتيجة الاستفتاء كتعبير ولو بأضعف الإيمان عن موقف تاريخي بحجم الحدث التاريخي الذي تستشرفه البلاد، فلا يليق بنا ونحن نفقد ثلث وطننا أن نلتزم الصمت ولا نرفع صوتا يسجل في التاريخ ويروي للأجيال القادمة أن الجنوب عندما غادر الدولة السودانية كان في الشمال من يبكي بكاءا نبيلا على فراق شعبه الذي هو جزء عزيز وكريم من الشعب السوداني، ورغم الحزن والدموع فإن المحزونين والمحزونات في الشمال يهنئون شعب الجنوب بممارسته لحق تقرير مصيره ويحترمون خياره في الاستقلال لأن الدولة السودانية بشكلها الماثل الآن غير جاذبة حتى لقطاعات واسعة من الشماليين أنفسهم. إن الحداد والحزن الذي تدعو إليه مبادرة (لا لقهر النساء) ليس مجرد فعل عاطفي يكتفي بإظهار مظاهر الحزن والحسرة والتعبير الشكلي عنها، رغم إيماننا بأن العاطفة في حد ذاتها طاقة خلاقة لها دورها المؤثر في تحريك الشعوب وصناعة إنجازاتها وهي منبع أساسي لإلهام الأفراد والجماعات، ومتغير مهم في معادلة الحراك الإنساني بأبعاده المختلفة، لذلك فإن الطغيان عندما يبلغ مداه يعاقب الناس حتى على عواطفهم! وهذا ما رسمه بعمق الشاعر أحمد مطر في وصفه لطغيان صدام حسين حيث قال: يرجو عدل محكمة وكان تنهّد المحزون في قانونه جنحة/ وكان حكم الموت مقرونا بضحك المرء للمزحة! نعم إن تنهد المحزون هو مرحلة ما من مراحل الثورة التي يخشاها الطغاة! ولذلك نتوجه إلى كل نساء السودان بالدعوة للحزن ولو في حده الأدنى والتعبير عنه وعدم الاستهانة بقيمته النضالية ودلالته السياسية، ولكن الحزن الذي ننشده في حملتنا هذه هو الحزن المتفكّر والمتدبّر، هو الحزن الذي يتحول إلى طاقة فاعلة في مجال التغيير، هو الحزن الواعي بتحديات هذه المرحلة التاريخية وأولويات عملها، هو حزن اليوم الذي يحمل في طياته فرح المستقبل، ولا فرح في المستقبل إلا بالتصدي لواجبات هذه المرحلة التاريخية المفصلية بشجاعة وحزم، وصبر ومثابرة،وواجبات هذه المرحلة تتمثل في الآتي: التغيير السياسي في الشمال، هذا أوجب الواجبات، وبدونه سوف يتفكك الشمال نفسه، فلا يمكن بعد حدث كبير كانفصال الجنوب تستمر الأوضاع كما هي عليه، لأن انفصال الجنوب يعني أن فشل الدولة السودانية بلغ مداه، وصحيح أن هذا الفشل تراكمي، ويستوجب وقفات مراجعة نقدية صارمة لمنهج الحكم والإدارة والتنمية في الشمال منذ الاستقلال ومن قبل كل القوى السياسية، ولكن نظام الإنقاذ الذي انفرد بالحكم منذ عام 1989 حتى الآن جعل من الفشل حالة إبداعية! على حد تعبير الأستاذ عبد الوهاب الأفندي، وخلق في الساحة السياسية السودانية أزمات جديدة غير مسبوقة، واستنفر كل مخزون العنصرية والاستعلاء الكامن في اللاوعي السوداني وجسده في مؤسسات ومنابر، وحول الحرب في الجنوب إلى حرب دينية جهادية بين الكفر والإيمان مما سبب حالة من القطيعة والمفاصلة التامة بين شقي الوطن، وقادت جملة سياساته إلى إغلاق الباب محكما أمام أي إصلاح جذري باتجاه الانفتاح والتعددية والمصالحة الوطنية كما أضاع ومع سبق الإصرار والترصد فرصة تحويل اتفاقية السلام الشامل إلى مساومة تاريخية ومشروع جاد لإعادة هيكلة الدولة السودانية، وخلق واقعا لا يمكن أن يقود إلا إلى انفصال الجنوب، وعلى أعتاب هذا الحدث أعلن الحزب الحاكم على مستوى قياداته أن ليس لديه أدنى استعداد للإصلاح السياسي أو الشروع في ترتيبات دستورية جديدة، مما يدل أن الحزب الحاكم عاقد العزم على استبقاء ذات المنهج المعوج في حكم البلاد وبالتالي عاقد العزم على تفكيك ما تبقى من الدولة السودانية، ولذلك لا يمكن أن ترهن مهمة التغيير لإرادة الحزب الحاكم بل لابد من تحرك القوى الحية لكي تفرض التغيير فرضا. من واجبات هذه المرحلة أيضا العمل على استدامة السلام بين الشمال والجنوب ولا سيما في جانب السلام الاجتماعي، فلابد من التصدي للخطاب العنصري وخطاب الكراهية لأن هذا الخطاب فضلا عن كونه يكرس الكراهية والعداء بين شعبي الشمال والجنوب هو خطاب مسيء لإنسانية أهل الشمال أنفسهم ولذلك على القوى الحية والخيرة والمستنيرة في شمال السودان أن تتحرك بفاعلية في هزيمة هذا الخطاب ونبذه وعزله وتوعية الجماهير بتهافته عبر العمل الثقافي والإعلامي وعبر التنوير الفكري وعبر تعريته والتنفير منه بمختلف الوسائل من منطلق الانتصار لإنسانية الشمال قبل أن يكون من أجل رد الاعتبار للجنوب، في تاريخ كل أمة لا بد أن توجد ممارسات عنصرية وإرث من المظالم والاستبداد، ولكن الأمم تتفاضل حضاريا بمواقفها من ماضيها، هل وقفت من الماضي المظلم وقفة ناقدة ومن ثم سلكت مسلك التكفير والتصحيح واستشراف حياة جديدة على أسس مغايرة للماضي أم سلكت مسلك الإنكار والمغالطة والمكابرة ومضت في طريق إعادة إنتاج الماضي وبالتالي مصادرة الأمل في مستقبل أفضل، ومن واجبات هذه المرحلة أيضا الاهتمام الخاص بالمناطق ذات المشاكل الشبيهة بمشكلة جنوب السودان والتي عانت من مظالم شبيهة بمظالم الجنوب حتى لا يكون مصيرها الاستقلال عن الدولة السودانية والسبيل الوحيد لذلك هو التغيير الشامل في منهج إدارة الدولة السودانية إن حدادنا المتبصر وحزننا المتفكر هو دعوة للتأملات العميقة في هذه القضايا وابتدار التحرك نحو معالجتها.