[email protected] لقد أثير موضوع إستيلاء العسكريين علي الحكم والاحتفاظ بالسلطة رغم اعلانهم بأن فترتهم ستكون مؤقتة ، وهذ يدعوني لإعادة هذا المقال الذي كتبته في عام 2004 ونُشر بصحيفة سودانيزأون لاين الالكترونية ، وعنوانه \"الجيش والحكم\". ينشأ الجيش ليحمي الوطن من أجل أي اعتداء عليه أو عدوان علي سلامته وأمنه من أي قوي خارجية ، وليصد الغادرين من المغامرين الذين يرومون تقويض الحكم الشرعي القائم المحكوم بالدستور ، أي الشرعية الدستورية التي اقتضاها الشعب وتعاهد عليها ، ولذلك نجد أن الجيش له قانونه الخاص كما يبين الدستور . أما تبعات خرق القانون المدني كالعصيان والتمرد فتصل عقوبته الي الاعدام . وكما يقسم الاطباء قسم ابوقراط للإلتزام بشرف المهنة ، كذلك يقسم ضباط الجيش المتخرجين من الكلية الحربية قسماً يلتزمون فيه بالاخلاص لنظام البلد والدستور والعمل به والبذل والفداء حتي بالمهج والارواح في سبيل الوطن ويلتزمون بذلك طالما كانوا في خدمة الجيش ، ولذلك عندما يقسم الضابط بشرفه العسكري فإنه يعني الالتزام بهذه المضامين الشريفة الغالية التي جاءت بالقسم الذي التزم وتقيد به . ولكننا في السودان إبتلينا بآفة الاتقلابات العسكرية كما أبتليت بها دول العالم الثالث في أفريقيا وأمريكا الجنوبية وآسيا وهي دول يجمع بينها جميعاً التخلف ، وتكاد الانقلابات العسكرية تتشابه في أعذارها وتبريراتها ، فالبيان الأول عبر الراديو يذكر أن الجيش تحرك بعد أن استشري الفساد وضعفت الحكومة وعمت الفوضي وأنهم جاءوا لينقذوا الوطن ، وسيرجعون الي قواعدهم في الثكنات بعد أن تستتب الأمور . وقد يكون في هذا بعض أو كل الصحة – ولكن لا يجوز الخروج علي الشرعية ، والأخطر من ذلك إنهم بعملهم ذاك يحنثون بالقسم الذي التزموا به ويقوضون دستور البلد ويخونون أمانة الحفاظ علي مكتسباته ، لأن أول شئ يفعلونه هو التضحية بالديمقراطية المتضمنة للحريات ويبدأون بالغاء الدستور وحل الاحزاب السياسية والنقابات وكل منظمات المجتمع المدني ، وتقييد الحريات والصحف والاجتماعات والزج في السجون بالمعارضين وارهابهم والبطش بهم وصب العذاب علي الشرفاء وبكل من يعترض سبيلهم ويكون الحكم والمال دولة بينهم . إن الدعاوي الكاذبة للإستيلاء علي السلطة بالدين تارة وبالشعارات البراقة كإشاعة العدل ورفع الظلم تارة أخري كانت ذرائع للإستحواذ علي الحكم منذ أن صَّير معاوية بن أبي سفيان الخلافة الاسلامية ملكاً عضوضاً . والعسكر لا يصلحون للسياسة بعد أن خبرناهم فهل يعقل أن تطلب من سمكري إجراء عملية جراحية !؟ أو من طبيب أن يصنع كرسياً ؟! والشئ المشترك في جميع هذه الانقلابات أنهم يعلنون انهم قاموا بإنقلابهم بإسم الجيش والجيش براء من هذه الفرية ، وحقيقة الأمر إنهم مجموعة من الضباط ذوي الطموح أو المغامرين للإستحواذ علي الحكم بالقوة ، والعسكريون حين يغتصبون السلطة ويذوقون حلاوة الجاه والسلطة والمال يستمرئون هذه الطيبات فيعبون منها عباً وتصير فترتهم التي قالوا عنها في بيانهم الأول أنها ستكون مؤقتة بأجل قصير ، ثم ترجع فيه الأمور الي نصابها ، فتطول هذه الفترة وتصبح بلا أجل محدد بل الي ما شاء الله ! بينما يعم الجوع والفاقة بالشعب وينتشر الجهل ويشيع المرض ويعظم الفساد والمفسدين ، ويكون المفسدون هم وأنصارهم ومحاسيبهم من الانتهازيين والمتسلقين والجهلاء ، فالفساد الذي ادعوا أنهم جاءوا ليجتثوه ، والذي كان كومة يصير جبلاً بعد حكمهم ! ونحن في السودان الذين عايشنا هذه الانقلابات العسكرية المشؤومة بدءاً بانقلاب الفريق ابراهيم عبود ومروراً بانقلاب العقيد (المشير فيما بعد جعفر النميري) وانتهاءاً بانقلاب العميد (المشير فيما بعد ) عمر البشير ، أقول عشنا وخبرنا تلك العهود السوداء والسنين النحسات في تاريخ السودان فقد قعدت بنا دون الأمم وبخاصة في حكم الجبهة ، وفقدنا فيها ما لا يقًوَم بمال أو ثروة وهو الكثير من قيمنا الجميلة وتقاليدنا السمحة ، وشاعت الفواحش من فقدان الأمانة وشيوع الرشوة والنفاق والتضليل والكذب ، دع عنك تفشي السفاح والشذوذ الجنسي ! عشناها وما زال يعيشها شعبنا الطيب المطحون بآلة القهر الأمنية ، وتبقي السلطة هي الهدف والغاية ويبذل الانقلابيون في سبيلها كل شئ من مبادئ وبشر ، إن كانت لديهم مبادئ ، فالانقلاب العسكري بقيادة الفريق ابراهيم عبود كان تسليماً وتسلماً من رئيس الوزراء وسكرتير عام حزب الأمة الأميرلاي عبدالله بك خليل ولم تكن هناك أهداف أو مبادئ ولا يحزنون ، وأما الانقلاب الثاني بقيادة العقيد جعفر نميري فقد تقلب فيه من اليسار الي اليمين فبدأً اشتراكياً بتأييد بعض الشيوعيين وانتهي اسلامياً بتعضيد الأخوان المسلمين ، ثم انقلب علبهم وزج بقيادتهم في السجون وأسماهم أخوان الشياطين .. ثم جاءت الطامة بإنقلاب الجبهة القومية الاسلامية بقيادة العميد عمر البشير ومن تخطيط ورعاية الدكتور حسن الترابي ، وهذا انقلاب عقائدي ورائه جهة معلومة ولكنهم أنكروا كل صلة لهم بالجبهة لعدة سنوات وإمعاناً في الخداع والتضليل زجوا بزعيمهم في السجن وأنكروا انهم اسلاميين وأنهم قاموا بحركتهم بإسم الجيش ، وفيما بعد اعترف الدكتور الترابي بخطيئته وقال أنه ذهب للسجن بينما ذهب البشير للقصر ، وإختط الدكتور لجماعته فقهاً أسماه فقه الضرورة وبمقتضاه اعتمدوا الكذب منهجاً لهم في أقوالهم وأفعالهم فيظهرون غير ما يبطنون والغاية تبرر الوسيلة مهما كانت متعارضة مع الدين والأخلاق ! وهذا الانقلاب الأخير يعد الأسوأ والأشرس في تاريخ الانقلابات فقد تمادوا في الظلم وفجروا في الخصومة ونال فيه شعب السودان من الأذي ما لم ينله في تاريخه الحديث ، فقد طمسوا وشوهوا كل ما هو جميل وأصيل ، وتفننوا في أكل أموال الناس بالباطل وتوسعوا في الجبايات التي فاقت ما كانت عليه أيام العهد التركي الاستعماري ! إن الجيش في الدول المتقدمة والديمقراطية الحقيقية وليست التي فيها برلمانات مظهرية فقط ونوابها كأصنام الكعبة قديماً أحجار لا تضر ولا تنفع ، له رسالة محددة لا يحيد عنها وهي حفظ الوطن ولا شأن له بالحكم ولم نسمع بانقلاب عسكري في انجلترا أو أمريكا أو دول أروربا ، والأدهي في هذه الانقلابات أن المتضرر الأكبر منها هي المؤسسة العسكرية نفسها ، فكل نظام عسكري يعمد الي تصفية كل ضابط يتوجس منه خيفة باحالته للمعاش وغالباً ما يتم ذلك لمجرد الشك أو الظن وبهذه الطريقة الظالمة أحيل آلاف الضباط السودانيين وفيهم الأكفاء الكثيرون والذين صرفت عليهم الدولة ملايين الجنيهات من مال دافع الضرائب السوداني وابتعثتهم الي أرقي المعاهد العسكرية في أمريكا وروسيا وبريطانيا للمزيد من التأهيل والارتقاء بقدراتهم ليكونوا ذخراً للسودان ودرعاً يصد عنه العاديات . واعرف أصدقاء لي من أكفأ الضباط أحيلوا الي المعاش بدون ذنب جنوه . وقد قال لي والدي وهو ضابط محترف شارك في الحرب العالمية الثانية في شمال أفريقيا وارتيريا وأثيوبيا وحارب في فلسطين ، قال لي ونحن في منتصف الستينيات من القرن الماضي انه يدعو الله أن لا ندخل في حرب مع عدو لأنه ليس لدينا قادة ، لأن خيرة القادة لدينا قد أخرجوا من الجيش ! وجاءت الكارثة الكبري في عهد الانقاذ التي أخرجت من القوات المسلحة الرجال من جميع الرتب ضباطاً وصف ضباط وحتي الجنود وأحالوا الجيش من جيش قومي الي جيش عقدي لجهة واحدة هي الجبهة القومية الاسلامية ، ونحوا هذا النحو في الخدمة المدنية والقوات النظامية الأخري . واقولها بكل قوة لكل السياسيين أبعدوا الجيش عن السياسة وابتعدوا عن الجيش ، وأنا رجل من جيل الاستقلال وشاركت بإيجابية من خلال موقعي القيادي في حركة الطلبة في الكفاح ضد الاستعمار ونلت ما نالني من فصل من الدراسة . فجراء تلك الانقلابات خسرت العسكرية ولم تكسب السياسة ... لا لتسييس الجيش ولا لتسييس الخدمة المدنية أيضاً ، ولنرجع لسيرتنا الأولي عقب الاستقلال وقبله للنأي بهذه الأجهزة القومية الحساسة من السياسة ، ولا يسقط هذا بالطبع حق العسكريين من إبداء رأيهم السياسي بالاقتراع والتصويت باختيار المدنيين الصالحين للحكم .