[email protected] حالة فريدة تنتظم الوضع السياسي داخل وخارج السودان لكنها لم تثمر بعد تمردا يطيح بالنظام. فلا زال أوار الحرب مشتعلا في أكثر من ثلاث ولايات . والملايين من المدنيين ما بين قتيل أو مشرد داخل القطر وخارجه. بينما بتر ثلث البلاد ، وفرز أهله عيشتهم بعد خراب \"ديار الأب\". ثورات جماهيرية تطيح بالأنظمة القريبة من السودان (أبو الثورات..؟). وأزمة معيشية طاحنة تجاوزت \"غتغتة\" النظام . ولكن .. لا زال النظام يراوغ ولا تبدو عليه علامات الانزعاج من مصير بئيس يتربص به. بل هو سادر في غيه. يبرر للفساد المستشري بفقه السترة ، يخل بالاتفاقات والحلول السلمية \"عينك يا تاجر\" ، يستمرىء الحرب وينتشي بانتصارات عسكرية لا تزيد إلا من رصيده الضخم في حصد الأرواح وتشريد الغلابة . لست هنا بصدد مناقشة بؤس النظام فقد أفاض فيه غيري شرحا وتفصيلا. ولكن أود أن أبحث في الأسباب التي حالت دون لم شمل المعارضة السودانية \"الحية\" وإتحاد كلمتها.في رأي هنالك قوتان أساسيتان على الساحة السياسية المعارضة . الأحزاب السياسية في المركز والقوة المسلحة في الهامش.والملاحظ هنا ليس فقط عدم وجود تنسيق عملي بين هاتين القوتين بل الأمر يتعدى ذلك إلى عدم الاعتراف المتبادل بشرعية وجود كليهما. وهذا هو مربط الفرس الذي يلعب عليه أبالسة الإنقاذ. إذا نحن في حاجة للشفافية والوضوح لمناقشة الأسباب التي أفضت إلى عدم الثقة والتحسب المتبادل بين الطرفين.ليس هذا فحسب بل نحن في حاجة لبحث تفاصيل ما بعد سقوط الإنقاذ حيث تكمن \"الشياطين\" التي لا بد من مواجهتها . وأرجو أن أكون واضحا في طرحي هذا بأن الهدف الرئيس الذي أنشده هو ضمان وحدة تراب الوطن وذلك عبر السعي الجاد إلى تكريس وإنفاذ عدالة في توزيع الثروة والسلطة عبر خيارات ديمقراطية شعبية حرة. بانفصال الجنوب صار مطلب تقرير المصير ، مقرونا بالرغبة في الانفصال ، أكثر جاذبية من أي وقت مضى.إذ أضحت هنالك إمكانات واقعية لتحقيق هذا الهدف برعاية دولية (أومحلية) أو الاثنين معا . إذا فالواجب الوطني يحتم علينا سد الذرائع التي تفضي لجعل هذا الخيار جاذبا.يجب أن لا نركن أو نطمئن مثلا بأن مشاكلنا يمكن أن تحل ضربة لازب إذا ما استعضنا عن الديكتاتورية القائمة بحكم ديمقراطي ، بل بالعكس ربما يلقي علينا إحلال الديمقراطية تبعات وأعباء لا قبل لنا بها إن لم نقدرها من الآن حق قدرها. إحلال الديمقراطية هو الخطوة الأولى المهمة في هذا المضمار الطويل ، لا جدال في ذلك، لكنها في رأيي لا تقدم أي ضمانات تحول دون وقوع الكوارث (الوطنية).التجارب الدولية أمامنا واضحة.لم يتمكن حكام أند ونسيا الخارجين لتوهم من عهود الديكتاتورية إلى رحاب الديمقراطية من الحيلولة دون انفصال تيمور الشرقية.وكذلك لم تحل الديمقراطية دون تفتيت يوغسلافيا إلى عدة دويلات والى قيام تطهير عرقي طال معظم الأقاليم. بل أن سوء تدبر العملية الديمقراطية كان السبب الرئيس في انفصال بنغلاديش عن باكستان. .الخ. علينا أن ندرك أيضا بأن ثورة شعبية سلمية في المركز ، كأكتوبر وأبريل، سوف لن يكتب لها الاستقرار نتيجة للإستقطابات العرقية والقبلية و\"المناطقية\" الحادة التي استشرت في البلاد وما ترتب عليها من حروب وغل غلف القلوب طوال سنين الإنقاذ الكالحة. الواجب الوطني يفرض علينا أن نعمل على إعادة الصفاء إلى النفوس المغلولة ، ليس عبر المصالحات الصورية بل عبر الإقرار الجاد والعملي بحقوق المواطنة للجميع وفرض العدالة الاجتماعية المحمية بالتشريعات والدساتير. ظهرت مؤخرا بعض المؤشرات التي توحي بتغيرات إيجابية في تفكير قيادات الحركات في الهامش كبروز أصوات جديدة تتحدث بجدية عن وحدة الهامش العريض ، بما في ذلك الهامش المديني (الشمالي)، مما يعني ضمنيا توسيع إطار العمل والمطالب كما جاء مؤخرا في المذكرات التضامنية المشتركة لعدة فصائل . وهي نظرة لم تكن متوفرة من قبل بهذا الوسع. لكن يبدو أن المتغيرات المحلية والدولية قد ألقت بظلالها هنا.فبعد سقوط نظام القذافي في ليبيا ، وصعود الثوار إلى سدة الحكم حسم الأمر أخيرا لمصلحة الحكم في الخرطوم .فقادة الثوار في ليبيا يشعرون بالامتنان للحكومة السودانية على دعمها العسكري الذي لعب دورا في حسم معركة دخول طرابلس . ولا أظنه ضربا من الرجم بالغيب التنبؤ بإمكانية صعود الإسلاميين إلى السلطة في مصر (بعد تونس). أما الأمريكان والدول الغربية عموما فقد وضح جليا بأنهم يتجهون أينما توجههم مصالحهم الإستراتيجية والاقتصادية خصوصا بعد الأزمة المالية المستعصية التي تطوق اقتصادياتهم منذ عام 2008. كما أن دولة جنوب السودان صار همها الأول والأخير هو تعزيز الاستقرار والتنمية في دولة جنوب السودان .وهي لن تتورط في دعم أي فصيل في السودان إذا وقف ذلك عقبة حقيقية أمام هذين الهدفين .والدول الغربية تشجع هذا الاتجاه بقوة وتعمل على تنفيذه حتى ولو كان بمد الجزرة للإنقاذ. لاعب آخر في هذا المضمار لا بد من حساب دوره حسابا دقيقا. إذ لا يخفى علينا الدور الخطير الذي باتت تلعبه دولة قطر في الوقت الحالي . فهي تتطلع بأن يكون لها دورا رياديا في العالم العربي و لا تألو جهدا في استخدام كل ما يتهيأ لديها لإنجاح هذا الدور. فهي من جهة تقدم الدعم القوي للإسلاميين في الدول العربية لعلمها بأنهم أكثر تنظيما وتأهيلا من غيرهم فهم بذلك أكثر كفاءة في تقديم المساعدة . وهي في سعيها هذا لا تمانع في الاستعانة بحلف الناتو لبلوغ أهدافها المرسومة بعناية ، كما حدث في ليبيا والعراق. والإسلاميون بدورهم في حاجة لتأسيس ودعم حكمهم المرتجى ،فهم أيضا في حاجة للدعم الغربي وللأموال التي يمكن أن توفرها العطايا القطرية خاصة وأن ميزانياتها تنوء بفوائض ضخمة . والحكم في قطر لا زال يرى في الإسلاميين السودانيين القوة الكبرى التي يمكن الاعتماد عليها في داخل السودان وخارجه . وبالمقابل لا ما نع لدى الحكومة السودانية في أن تلعب دور مخلب القط في هذه الإستراتيجية القطرية طالما أنها توفر لها المعونة العسكرية \"لضرب المتمردين\" وتخفف عنها الضغوط الدولية إلى حين . نخلص من هذا بأن الوضع العالمي إن لم يكن يسير لصالح الخرطوم فهو بالقطع لا يسير في صالح الحركات المسلحة في الهامش أو المعارضة الحزبية في المركز ، على اقل تقدير في المدى القريب المنظور. إذا من الأفضل تكثيف التحرك نحو الداخل وبناء تحالفات قوية تعمل على إسقاط النظام كتحالف كاودا الذي يجب دعمه وتعزيزه \"بأخوات\" له من المركز. ومن المؤكد فإن مجرد الشروع في عمل كهذا كفيل ببث الرعب في أركان النظام وعندها سوف يكتشف الجميع مدى ضعفه ومدى سهولة إسقاطه. التقارب الداخلي ليس بالأمر السهل ،لكنه ليس بالمستحيل . فنأي الحركات المسلحة عن أي ارتباط يقرب بينها وبين المعارضة في المركز له ما يبرره على أرض الواقع . فقد أكتفت الأحزاب في المركز ، في أحسن الأحوال ، بتقديم الدعم الخجول وهي تشاهد المآسي التي يتكبدها الهامش من جراء الحروب اللعينة التي أججتها الإنقاذ ،ولا زالت، في الوقت الذي كان يفترض فيه،قيام تضامن حقيقي يقف بوجه الحرب أو حتى فقط بمد يد العون لضحايا الحرب من الغلابة والمشردين. هذا التردد أو بالأحرى العزوف من جانب المركز جعل خطاب الحركات في الهامش ينكفئ على ذاته ويحصر همه في مواطني الإقليم (أصحاب الوجعة). لكن يجب أن لا ننسى أن هذا الخطاب ،الموجه اضطراريا، نحو القبيلة والجهوية سوف يقود حتما إلى التفكير الجاد في الانفصال كلما طال أمد التعسف الإنقاذي. وكما أسلفت في المقدمة فنحن إزاء وضعية سياسية مهيأة للانفجار في أي لحظة ودون سابق إنذار مما يستدعي أن تكون القوى السياسية جاهزة بمشروعاتها ورؤاها التي تمثل بديلا حقيقيا لمشروع الإنقاذ ألآحادي. ونقصد هنا بالتحديد المشروع الذي يطمئن أهل الهامش بأن هنالك بديلا حقيقيا بمقدوره إزاحة كابوس الإنقاذ الموسوم بالموت والعنصرية ونقض العهود. لكن يستلزم ذلك تقديم التنازلات ،الصعبة، من جميع الأطراف في المركز والهامش. ولكي نمهد الأرضية الصلبة لذلك ، على المركز الاعتراف أولا بأنه لم يقدم من التضحيات ما يؤهله كي يحوز على نصيب طيب من قسمة السلطة القادمة . فقد قدم الهامش ،ومازال يقدم ،الأرواح والممتلكات في نضاله ضد سلطة الإنقاذ .إذن فلنقلها وبكل وضوح فلتكن القيادة السياسية والتنفيذية القادمة من نصيب الهامش عربونا على التضحيات الجسيمة التي قدمها ودرءا لأي تفكير في الانفصال. لا أعني بذلك الدعوة لإقصاء الأحزاب من الحياة السياسية لا بل لها دور أساسي لا يمكن تجاوزه في عملية البناء والنقد واستعادة وتنشيط الحياة المدنية. فقط مطلوب فترة انتقالية يكون على رأس السلطة التنفيذية فيها أهل الهامش ويكون للأحزاب دور رقابي ودور أساسي في كتابة ومراجعة الدستور والقوانين والتشريعات. بالمقابل ، لا يمكن أن نرهن السلطة القادمة (الانتقالية وما بعدها) إلى جهة ما دون أن نكون على ثقة بأن تلك الجهة جديرة بالحفاظ عليها دون فساد أو هيمنة أو عنف مضر . فالناظر إلى حال الحركات المسلحة في الهامش اليوم يلاحظ تغول القبلية والإقليمية والعنف (بديلا عن الديمقراطية) على منهج وسلوك القيادة فيها .وهو ما يبرر الخوف الآن من أن الهامش ربما يأتي إلى السلطة وبذرة المحاباة، ومن ثم الفساد، والتسلط متجذرة في أركانه. لكن ، ما دمنا في طور التوقعات ، والعشم بعهد من الشفافية والديمقراطية الحقة وسيادة القانون دعنا نتفاءل خيرا ونقول بأنها مشكلة (تقنية) يمكن حلها بالطرق السلمية والديمقراطية . أولا لا بد من إعادة صياغة الدستور والقوانين بحيث تكون راعية وداعمة للتنوع والتعددية الثقافية والدينية والقبول بالتداول السلمي للسلطة. يجب استحداث القوانين التي تعالج القضايا الحساسة والتي لها ارتباط وثيق بالشعب مثلا كشغل الوظائف التنفيذية العليا في الدولة بحيث لا تصبح \"مطلوقة\" تعبث بها الأحزاب وأقرباء التنفيذيين.بل ترتب وتضبط اللوائح بحيث لا يستطيع شغل هذه المناصب إلا من يثبت جدارة مهنية من خلال اختبارات ومحاصصة فنية دقيقة . نأمل بأن تكون الفترة الانتقالية المقترحة مثالا يحتذي في الشفافية والنزاهة واحترام القانون. لا بد فيها من إعادة الهيبة للقضاء وأهله بعدما تم تدنيسه من زبانية الإنقاذ. على أن يناط بأمره إلى جهات عدلية مستقلة يشترط فيها الحيدة و النزاهة .جهات عدلية يخشى قوتها الوزير قبل الخفير . تساعدها في تأدية مهامها هذه حرية كاملة للصحافة ومنظمات المجتمع المدني التي تعطي بدورها زخما ومصداقية للدور الرقابي الشعبي. لا يمكن هزيمة مشروع الإنقاذ ألآحادي المدمر إلا بمشروع عملي جاد يبعث الثقة بين مكونات الشعب ويفجر فيه الطاقات المكبوتة . مشروع للديمقراطية والعدالة الاجتماعية المحمية بقوة القانون.