[email protected] لا شك في أن صرير كراسي قادة الإنقاذ من تحتهم بات مسموعا لدى الجميع. والحركة الإسلامية لم تعد تحتمل الوقوف موقف المتفرج من هذا المشهد حتى لا ينهار المعبد على من فيه وهم شهود على انتحارهم الجماعي. الأمر لا يتعلق فقط بصرير الكراسي الإنقاذية والذي يمثل ، من وجهة نظر البعض منهم ، الجزء الفارغ من الكوب ، بل لا بد من النظر إلى الجزء الممتلئ منه والذي دفعت به إليهم نشوة الانتصارات الانتخابية التي حققها الإسلاميون في كل من مصر وتونس والمغرب والكويت والواقع \"المبشر\" في كل من اليمن وليبيا والأردن وسوريا. ثمة سبب آخر وراء بزوغ الأمل لدى الإسلاميين ، فهو لم يأت فقط بسبب فوز جماعات الإخوان المسلمين ، المعروفة بمقدراتها التنظيمية العالية منذ القرن الماضي، ولكن بالفوز الكبير المفاجئ الذي حققته الجماعات السلفية والتي لا يعرف لها،في السابق، خبرات تنظيمية تذكر. جاء هذا الفوز معززا لآمال التنظيم الإسلامي في السودان بأن \"شعوب المنطقة\" لا زالت تحتفظ لرافعي الشعارات الإسلامية بقدر من الاحترام مما يسهل إعادة الثقة فيهم رغم انخفاض شعبيتهم التي جرتها عليهم الممارسات الفاسدة لسلطة الإنقاذ. ولعلي أُذكر هنا بأن \"الترمومتر\" السياسي للإسلاميين السودانيين أكثر حساسية من كل التيارات السياسية الأخرى.اقصد ،بأنهم كانوا أكثر دراية (وواقعية) من غيرهم في قراءة وفهم الواقع السياسي ومآلا ته. ولا أظنني أحتاج هنا كبير عناء لتقديم البراهين على ما سقت . يكفي فقط الإشارة إلى أنهم تمكنوا من الاحتفاظ بالسلطة لأكثر من عقدين بتنظيم ضعيف لم يكن على الإطلاق هو الأقوى من بين كل القوى السياسية الموجودة على الساحة آنذاك . لكنه استطاع بذكاء (ودهاء) أن ينقض على السلطة السياسية في توقيت مضبوط وأستطاع بذكاء أيضا إعادة تشكيل الواقع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي لصالحه تارة باستعمال القبضة العسكرية المسلحة أو بالأيدلوجية الدينية الإسلاموية وتارة أخرى بالعمل على تفتيت مكونات المجتمع المدني في شتى أشكالها. لكن من المعروف بالضرورة أيضا بأن أي تنظيم بهذا الضعف والمركزية وإن تحقق له الاستمرار في السلطة لفترة من الزمن لا بد أن يصل، عاجلا أم آجلا ، إلى اللحظة التي يهرم فيها ويظهر عاجزا عن ممارسة كل الأسلحة التي جربها من قبل نسبة لانقضاء صلاحيتها وعدم قدرته على تجديدها. إلا أن الأحداث الإقليمية المتسارعة \"للربيع العربي\" ألقت \"التفاحة \" على رؤؤس من هم على هامش التنظيم فاستفاق الحلم من بياته الشتوي وانتعش وبدأ التنظيم في إعادة ترتيب نفسه تحسبا لمقبلات الأيام الصعبة . والأمر كذلك،ولإنجاز هذه المهمة كان لا بد له من قطع الصلة مع الحاضر البائس المتأزم ولبس لبوس المعارضة حتى ولو بشكل تدريجي. المهندس الطيب مصطفى صاحب منبر السلام العادل وصحيفة الإنتباهة كان من أوائل الذين تحسسوا الخطر الذي بدأ يتربص بالجماعة . وكان من أوائل الذين بدءوا مشوار \"النقد الذاتي\" بكشفه للعديد من ممارسات الفساد ، ليس هذا فحسب بل صار في الآونة الأخيرة يصرح بأن لا بقاء للإسلاميين في السلطة إلا بمشاركة منبرهم بل وصل به الأمر إلى التهديد باستعمال القوة في حالة عدم الانصياع لهذا الشرط .وهذا اتجاه واضح يسعى للمضي قدما في طريق معارضة النظام. فإذا سارت الأمور إلى التعجيل بسقوطه وجد ما يعينه في اللحاق بقوارب النجاة . جماعة المؤتمر الشعبي ،منذ المفاصلة المشهورة ،التزمت معارضة النظام . لكنها اعتمدت شكلا من المعارضة يبدو وكأنه ردة فعل على إقصائهم من مراكز السلطة. ولكن يلاحظ اليوم بأن الأمر قد تعدى مجرد ردة الفعل إلى التحالف القوي مع الأحزاب المعارضة الأخرى (بما فيها الحزب الشيوعي والحركة الشعبية) مع التركيز على التصريحات التي تدين الفساد في أجهزة الدولة المختلفة والدعوة الصريحة لإسقاط النظام بكافة السبل. أما السلفيين فبالرغم من \"مسكهم العصا من النص\" وتعاونهم الواضح مع السلطة إلا أنهم في الفترة الأخيرة باتوا يعرضون أنفسهم كبديل محتمل للإنقاذ يشجعهم في ذلك فوز أقرانهم المبهر في مصر وتونس. أخيرا وليس آخرا تأتي المذكرة \"الألفية\" لإسلاميي المؤتمر الوطني لتعطي مؤشرا قويا بأن الململة في صفوفهم قد خرجت إلى العلن.وربما لنفض الغبار عن آلية \"الدين المناصحة\" التي غابت لأكثر من عقدين من الزمان . فإذا لم تفلح فدرء المفاسد بالسيف أولى . فهل نتوقع في القريب شكلا من أشكال \"إعادة ترتيب البيت الإسلامي\" بكل مكوناته خصوصا إذا ضاق الحبل على رقبة الإنقاذ..؟ ذكرت من قبل بأن الإسلاميين لا زالت لديهم ثقة في استعادة تعاطف الشعب السوداني معهم عند أي طرح ديمقراطي مرتقب.لم يأت هذا الزعم من فراغ. فتجربتهم السابقة بعد الانتفاضة في 1985 تؤكد على ذلك. فقد ظلوا يشاركون النميري السلطة حتى آخر شهر من عمر \"ثورة مايو\" . الأمر الذي شجع قوى الانتفاضة (الحزبية والنقابية) ، بعد نجاحها ، الإتحاد على محاربتهم وإقصائهم وعدم السماح لهم باستعادة ما فقدوه من ثقة الشعب. لكن جاءت نتيجة الانتخابات مخيبة لآمال قوى الانتفاضة حيث حصدت الجبهة القومية الإسلامية من كراسي المجلس ما فاق كل تصور . ليس هذا فحسب بل استطاعوا فيما بعد ، مستعينين بما اكتسبوه من تفويض شعبي قوي ، تليين مواقف بعض الأحزاب التي كانت سابقا تعارضهم ودخلوا معها في تحالفات سمحت لهم بالتمدد في الجهاز التنفيذي الحكومي ومن ثم اكتساب الخبرات والمعرفة والدعاية السياسية لحزبهم وضرب المعارضة المناوئة لهم وتشتيتها مما أعانهم كثيرا في التعامل مع متطلبات الحكم وتثبيت أركانه حينما آلت السلطة إليهم كاملة بعد انقلابهم على الديمقراطية في 1989. إذا من المحتمل ، ولو نظريا ، استعادة الثقة الشعبية في أي فترة ديمقراطية مقبلة. ويزداد هذا الاحتمال قوة ، كما أسلفت ، على ضوء النتائج الانتخابية الكبيرة التي حققها الإسلاميون بعد الربيع العربي. يتعجب البعض من فوز الجماعات الإسلامية في مصر ،خاصة فوز الجماعة السلفية. إذ يعده البعض ضربا من ضروب الحظ أو المنح السماوية ، أي استحقاق سياسي دون عمل جماهيري جاد.ولكن يخفي على الكثيرين العمل المدني الكبير المنظم الذي كانت تمارسه هذه الجماعات حتى أثناء فترة حكم مبارك.لنأخذ مثالا على ذلك،فقد فتحت الجماعات العديد من أماكن بيع \"اللحوم والخضار\" بأسعار مخفضة كانت في متناول الكثير من القطاعات الشعبية .إضافة إلى حملات العلاج المجانية والدروس المجانية في فصول محو الأمية وتلاوة القرآن.هذه الأعمال كانت تجري بصفتها أعمال خيرية لكن الجميع كان يدري بأن \"أصحاب اللحى\" كانوا هم من يقف ورائها. ربما يرى بعض المثقفين بأن هذه الأعمال لا ترقى لأن تكون مصدرا للدعم السياسي ولكن حينما يغيب الآخرون تماما عن هذه الساحة تظل هذه الأعمال هي البضاعة السياسية الوحيدة المعروضة أمام الجماهير.وهي تعني بدرجة أو بأخرى بأن هنالك تنظيم جاد في سعيه لرفع المعاناة المعيشية عن كاهل المواطن. فكيلوات الخضار واللحمة المخفضة أصدق أنباءَ من طن من أوراق المعلومات حينما يأتي وقت وضع ورقة التصويت في صناديق الاقتراع. والقصد هنا بأن العمل الجدي وسط الجماهير يكتسب أهمية عملية كبيرة جدا ومصداقية (عن تجربة) خاصة عندما يغيب الطرف الآخر عن ممارسة الأعمال المشابهة ويكتفي فقط بالعمل الفكري. لا أود هنا تكرار ما ذكرته في مقال سابق عن ضعف العمل المعارض للأحزاب السياسية في المركز ، لكن ما أود الإشارة إليه هنا بأن جماعة المؤتمر الوطني لم تعد بعد تتوجس من تحركات أحزاب المركز . منافس واحد فقط يقف عقبة أمام هذا الزحف الجديد المحتمل للإسلاميين المتلبس بلبوس المعارضة ألا وهو المعارضة المسلحة المنتظمة في الهامش.فهي صوت قوي ضد الأوضاع الراهنة كما أنها تكتسب أهمية خاصة لسكان تلك المناطق المنكوبة التي صار الموت والجوع والتشرد فيها ممارسة يومية . وهم بالتأكيد ليسوا كساكني المدن الذين تقل معاناتهم ، على تزايدها ، كثيرا عن هذا الواقع.والأدهى (والمحزن) في هذا الأمر فقدان التعاطف والإحساس بمعاناة الآخرين عند معظم هؤلاء. قاطني المدينة يعيشون إلى حد كبير معزولين ، وبالتالي لا يعرفون ،ولا يتعاطفون إن عرفوا ، بما يجري في الأطراف من حقيقة التشرد والبؤس الذي يعيشه المواطن البسيط في مناطق الحرب في النيل الأزرق أو جنوب كردفان أو دارفور .حتى الذين يعرفون ما يحدث لم يفعلوا \"أضعف الإيمان\" بتقديم الإغاثة للمحتاجين في تلك المناطق أو بالسعي الحثيث والجاد للوقوف على أحوالهم. ودونكم الأحزاب المعارضة والأجهزة الإعلامية فلم نسمع إلى الآن بصحفي تجرأ وذهب لتلك المناطق وعرض مشاهداته عنها ، ولكننا ويا للغرابة والخزي ، سمعنا بمن قام بالتبرع للبوسنة والهرسك والصومال ، وأقام الفعاليات لمناصرة الشعب السوري ولم نسمع بفعاليات لمناصرة من يشاركونهم الهوية والانتماء.وبذلك ربما يتكرر نفس المشهد المؤلم الذي انتهى بانفصال الجنوب. هذا جزء من التعاطف الشعبي المفقود بين حاملي السلاح في الهامش والمعارضة الشعبية في المراكز الحضرية . من البديهي في مثل هذه الأوضاع أن تكون السلطة الحاكمة هي المستفيد الأكبر من ما يحدث من تعميق للهوة بين مواطني الريف والحضر .إذا لإعادة لحمة التعاضد المجتمعي واستثمارها كقوة ضغط سياسية ، يجب على المعارضة المسلحة إضافة العمل السياسي وسط جماهير المدن إلى أجندتها ، جنبا إلى جنب ، مع قوة السلاح الذي تتمتع به. نتساءل نحن بدورنا لماذا تتهيب المعارضة المسلحة العمل السياسي المدني؟ من الواضح أن حصيلتها في هدا الأمر ضعيفة بالرغم من أن الغلابة الموجودين على هوامش المدن ينحدر معظمهم من نفس الأقاليم التي تنطلق منها الأعمال المسلحة حيث تجد التأييد والدعم الجيد من السكان هنالك. أود في هذا السياق التذكير ببعض التاريخ النضالي للحركة الشعبية لتحرير السودان . حيث أنها لم تهتم في بادئ الأمر بالدعاية والعمل السياسي والميداني في الحضر بالرغم من أن للحركة قسم يعنى بالشق السياسي للنضال. فربما وقف التكثيف الأمني بالمدن عقبة أمام وضوح التأييد الشعبي لسكان المدن للحركة. لكن الاستقبالات الحاشدة للقائد جون قرنق في الخرطوم أوضحت بجلاء حجم الدعم والتعاطف الكبير الذي كان يحظى به في المدينة مما يعني فقدان مساهمة قوة جماهيرية كبيرة كان لها أن تحدث فرقا إن تم توظيفها بفعالية . يجب أن تكون لدى قادة الحركات المسلحة إستراتيجية فاعلة لاستقطاب دعم الجماهير الشعبية في المدن لأنها يمكن أن تقدم الكثير للعمل المعارض إذا ما تم تعبئتها وتحريضها بالصورة الصحيحة. يجب عدم ترك العمل السياسي في المدن للأحزاب السياسية في المركز التي أثبتت ، حتى الآن ، ضعفا كبيرا في الاستجابة لتطلعات الغلابة فيها. وعلى الحركات المسلحة أن تنتبه جيدا لهذه النقطة المهمة وتستثمرها في نضالها الشاق. ثانيا ، فإذا كانت الحركات المسلحة تتطلع لبناء مشروع سياسي في البلاد قائم على الاحتكام إلى الديمقراطية كمنهاج للحكم بعد زوال سلطة الإنقاذ – ولا شك في ذلك - فلا بد لها من ممارسة العمل المدني على مستوى الحضر أيضا. من هنا نتطلع لأن تلعب الحركات المسلحة دورا أكبر في عملية الحراك المدني لأنها هي المؤهلة عمليا ، أكثر من غيرها، على حمل إرث المعارضة الشعبية للنظام وبذلك يقع على عاتقها الدور الكبير والمهم في مقارعة الإسلاميين القدامى والجدد وكسب ثقة الجماهير الشعبية في المدن والأرياف. وعلى كل حادب على وحدة السودان تشجيع الحركات المسلحة للانخراط في العمل الجماهيري في المدن والأرياف لأن البديل المطروح ، في حالة انزواء الحركات المسلحة على حالها بعيدا عن العمل المدني ، هو تفشي الروح الانفصالية ومن ثم الندم ولات ساعة مندم..!.