ككل أهل النوبة من الشمال ، طلعنا إلي هذه الدنيا وأغانيك تصدح في أركان البيت حتي ظننا أن ( الروادي ) في البيوت النوبية أينما إتجهت موجتها فأنها تغني لوردي أو تذيع أخباره . قبل أن ندخل المدارس كنا نردد يا ناسينا ، وجميلة ومستحيلة ، فرحي خلق الله ، عذبني وزيد عذابك. غنينا معك سكر سكر فمو قليه ، كوجين ونجي كو حاجب هلاليكو ، ولا نفهم حينها منها شيئاً . كنت وستظل أيقونة نوبية عزيزة كقطعة من النفس لا تتجزأ ولا تكون النفس الا بها . والنوبة لا كما يصفونهم بعنصريين ولكن كمحبين لبلد يرفدونها بالنبغاء والعلامات والعظام ، مضيفين للبلد حباً وعطاءً وإثراء . إمتداد من فراعنة ملأوا الدنيا وشغلوها بعظيم أعمالهم وعظيم هاماتهم حجماً وعطاءً . أيقونة نوبية عزيزة لانك ما تنكرت لذلك اللسان كأحد أهم ما يميز هذه الشخصية وهي تمور وتفور في المدن هنا وهناك في الغربة والمهاجر فأحبوك وأعزوك لأنك وقفت قومياً شامخاً إحتضن وأحاط بكل السودان ، إجتمع حولك من إختلف ومن إتفق فكنت قومياً بإقتدار . ايقونة نوبية عزيزة لأنك وبتلك القومية التي لايختلف عليها اثنان ( عزيّتهم ) بالغناء النوبي الحنين ، الذي يثير شجونهم ويعيد اجيالاً الي مراتع الصبا وذكريات الشباب . ويربط اجيالاً اخري باماكن وصور ربما لم يروها الا عبر مخيلاتهم ومن احاديث ابائهم . فكانو بذلك يقولون هذا منا ، هذا لنا ولكم ، هذا عزيز عندنا وعندكم ، يفاخرون بك . فكنت بذلك ترضي اعتزازهم بنفسهم فخراً بك وانت بتلك القومية والوطنية والسودانية . خضت الغناء عربياً فصيحاً فنطقته صحيحاً مفخخاً حروفه ضابطاً مخارجه ربما احسن ممن كانت لغتهم الأم . وفي كل ذلك كانت روحاً نوبيةً تخرج مع الحروف لا تخطؤها اذن تعرف النوبية . ومنها أن حرف الدال ظل عندك نوبياً خالصاً ، فالنوبي لاينطق الدال كما في العربية ، وهو بسط اللسان عند التصاقه بسقف الفم ولكن بشئ من النفخ والصاق طرف اللسان فقط لا كله بالسقف فتخرج الدال موَقعة كأنها ايقاع علي طبل او دف . فتهز النوبي اينما كان ويزيد ارتباطه بك متآلفاً مع الحانك عربية كانت او نوبية . مشيت معنا دروباً حتي ظننا ان لا درب الا وكنت معنا فيه . فلانعرف من السودان الا وانت فيه . حين لم نشهد الاستقلال ، شهدناه معك في غنائك ، فما رفع علم السودان واحتفل سوداني باستقلال بلاده الا وكنت حاضر هناك ، مع المهجة الوجدان ، محركاً المشاعر ورافعاً ترمومتر الوطنية الي اقصاه وما توقفت . تعبر مراحل تاريخنا الحديث ، لم نشهد اكتوبر و لا تٌدرس في كتب التاريخ ولكنك اخذت اعينننا الي هناك لترينا كم كان اكتوبر اخضر . في كل حفل يطلبها الشيب والشباب اغانٍ سموها الاكتوبريات فدرستنا انت حين غاب الدرس . وعندما بدأ حماس عهد حركات التحرر يخبو والعالم يبتعد عن الستينات ويستقبل السبعينات بشئ من الاحباط في حكومات الاستقلال كنت هناك معبرا بصوتك عمَا يجول في الخواطر والقلوب . عندما بدأ الاغتراب عن قيم جميلة ارتبطت ببواكير عهد الاستقلال والتحرر ، عندما بدأ الناس يحسون بالاغتراب عن بلادهم وهم فيها ، فامتزجت احلامهم ببلادهم باحلامهم بالحبيبة . فكان غناء مثل ( بناديها ) و ( جميلة ومستحيلة ) خارجا من كل حلم ومن كل مهجة ومن كل وجدان .فكنت تغني وكأن الناس من يغنوا لا انت . وكان الناس يغنونها وانت داخل كل واحد مهنم . وعندما اغتربت الاجساد فعلا لا حلما في الثمانينات ، انتقل غناؤك يعبر عن الحالة وكأنك نبض الناس ان اقاموا اقمت وان رحلوا رحلت وان حزنوا انت قبلهم . عشت مع المغتربين احزان الغربة وعشت مع المقيمين اشواقهم لاحبائهم . غنيت للمحب هناك وللحبيبة هنا . وعندما اغتربت انت كانت اغانيك تاتي الي البلاد بك وكأنك هنا تحوم في الشوارع تدق البيوت وتسال الناس عن احوالهم . فبعد نهاية الثمانينات اغترب الجميع ، الا فئة قليلة ، منهم من اغترب بجسده ومنهم من كان جسده باقيا ولكن انكفأت روحه مغتربة عن المكان تلفها الوحشة والشوق الي مايعرفون من بلد . هنا عرفت انك اصبحت لا جزءً من الوجدان فقط بل جزوته ، بل الوجدان نفسه . فما رضيت لاهلك الحزن والكآبه والانكفاء . كانت اغانيك وشرائط حفلاتك المسجلة في عواصم الاغتراب تأتي لتشيع الفرح في البيوت ليتبادلها الناس وتنتشر بينهم كترياق للحياة . انظر الي شريط حفلك في اديس ابابا في نهاية الثمانينات ، رجل في الستين ، مثلك شيخُ رضي بالمعاش مصيراً ، ولكنك هناك ، لابساً قميصك الاصفر ، اللون النابض بالحياة ، قصير الاكمام كشاب في العشرين والناس في الاستاد مكان الحفل يحيطون بك حباً طاغياً ، يموجون ويميلون مع الحانك بتناغم وكأنك تحركهم ، تترك لهم الموسيقي والايقاع لزمن ، تضرب علي القلوب بايقاع كمسعف يسعف قلباً كاد ان يفارق الحياة ، معرفاً علي طاقمك من الموسيقيين فرداً فرداً علي صوت النغم ، وكانك تقول للناس كلكم فردا فردا لكل ٍ دور للخروج من الأزمة وبدء الحياة من جديد بفرح وقبول . استمر الوجدان السوداني عكرا طوال التسعينات لا يعرف الفرح ، حتي في بيوت الافراح ، الفرح موءود . واولئك يقيمون افراحا زائفة في بيوت الاحزان . فحين بكي (ص) علي حمزة سيد الشهداء وابكي معه المدينة ، استكثروا هم علي الناس بكاء فقدائهم في الحرب وطغوا وتجبروا في بيوت العزاء بالغناء السخيف و الزغاريد الطائشة . قلبوا الافرح احزانا وما استطاعوا ان يقلبوا الحزن فرحا . اختلت مقاييس الفرح والحزن و اهتزت بوصلة الوجدان السوداني وما عاد ترمومتره يعمل . ذاك كان حتي العام 2002 حين عدت انت وانهيت الاستسلام للاغتراب . يمكن للسوداني ان يؤرخ لذك العام بمزاج السوداني قبل وبعد عودة وردي . هل شهدت الخرطوم في ذلك العام . كل الخرطوم ، كل السودان لا حيث اقمت حفلاتك في ارض المعارض ببرّي فقط ، نثرت العطر ونشرت الفرح . جئت بقلب كل سوداني الي برّي غسلته واعدته اليه ضاحكاً . هل بدأ المزاج في الاعتدال . ربما كنت حينها الشئ الوحيد الذي يجمع عليه السودانيون بعد النيل . دقت ساعة الفرح ، هلموا ، ان آتووا لنودع الكآبة والفتور . نستطيع ان نفرح ولو كره الكارهون . هل رأيت الخرطوم في ذلك الحدث ، حدث عودة وردي ، كأنها ولدت من جديد ، أميرة هي منذ القدم ، عزيزة علي قومها حكم عليها بالموت ، حينها طبعت علي خدها قبلة الحياة ، ما كان غيرك ان يعيدها للنبض . كنت فارسها حاملاً سيف الكلام منازلاً عنها الحزن والاستسلام . آهٍ يا خرطوم هل عرفت ان فارسك قد رحل ، هل بكيت كما بكيت . روحك تختلف ، روحك مفتاحك ، محبة للحياة ، مؤمنة بالعطاء تدفعك دفعاً لتمور وتموج باعثاً بالحياة في كل ما حولك . روحك من الشاشات والسماعات تخرج لتحيا مع الناس في البيوت ترقص معهم وتطربهم ، تقاوم الشيخوخة والكبر والمرض فتخرج بها الي الناس برغم ذاك صحيحاً معافيً ، فرحاً ، نضراً كأنك شاب في مقتبل العمر . كنت فرحاً مقيما بيننا ورحلت ليكون حزنا مقيما لفراقك . ولكن ستظل معنا تلك الروح الشابة التي مشت معنا كل الدروب ، دروب الاوطان ودروب القلوب . في الاستقلال واكتوبر وظروف مايو وبعض تنفسنا من ازمان الحرية ، ايام الطغمة ، وبعد تغيير المزاج ، في الحنين واللوعه في حلو الحب وعذابه في مراجل الاشواق ، في كبرياء المحب وانكساره في لهفة القلوب في فرحها في خجلها في صبابتها في صخبها في ضوضائها في انينها في دمعها حزنا وفرحا . ورديّ .. عطرت دنيانا .. ذاكرتنا ، حاضرنا ومستقبلنا ، فهلا رحمك الله بقدر ما فعلت واكثر .