في العام 1932م ترجل من علي صهوة النضال ضد المستعمر الانجليزي في السودان الفنان خليل فرح الذي قدم إلى الخرطوم العاصمة من أقصى شمال السودان من ارض النوبة التاريخية متأبطا عنفوانها واعتزازه بالانتماء لكل السودان. رحل خليل فرح وترك جذوة النضال بسلاح فن الغناء متقدة . وفي ذات العام ومن نفس الطينة النوبية سطر القدر ما أعتاد على تدوينه عبر التاريخ على ضفاف نهر النيل العظيم كتب ميلاد طفلا نوبيا لا يجاري النيل في إنسيابه نحو مصر بل بجسارة يسبح نحو المنبع. كان ميلاد الجذوة التي تضئ والروح التي تستبسل لإعلاء القيم الفاضلة. كان محمد عثمان وردي الذي إنخرط في سلك التعليم والتربية فضاقت عن طاقاته الإبداعية وشغفه نحو الحرية غرف التلاميذ في المدارس المتوسطة والثانوية. اختار أن يتعلم ويعلم في ساحات الشعب بكل سحناته وألسنته وفاض عن السودان لتسقي سحائبه كل دول حوض السودان شرقا وغربا وجنوبا وفي ثنايا الدغل الأفريقي. فلا غرو أن نتساءل كيف لهذا النوبي الساحر أن يخلق فضاء إنسانيا موازيا لذاك الذي أنهكه أهل الفكر والسياسة ؟ انسجمت في عالمه تفاصيل إنسانية أرهقتها الحروب . في السودان فقط مئات الألسن عدا دول الجوار . كان محمد وردي ساحة ثقافية تنداح فيها الغيرية وتتلطف بإحساسه لذلك عندما يغني التراث النوبي تتفتح أسارير التعدد الإنساني ويتفاعل معه فيطرب البيجا في الشرق ويرقص الدينكا في الجنوب . تغنى بعربية أهل وسط السودان التي أصبحت لغة المدن كافة فأذهل وعانقه الجميع،غنى للحب كأنما الحب خلق من جوفه ،تغنى للثورة والثوار كأنما البارود من خلجاته غنى للتاريخ للقرشي الشهيد لبعانخي ولعبد القادر الحبوبه لعلي عبد الطيف بطل اللواء الأبيض غنى لأكثر من نصف قرن فترك مكتبة غنائية قدرت بثلاث مائه عمل مابين نشيد ثوري وحلم عاشقين غنى للصورة وللأسطورة وسحرها يا روعه سحر الأسطورة ) يا سمحتنا الما بنطولا) غنى يا جميله ومستحيلة) التي من فرط عذوبة كلماتها وروعه موسيقاها استحالت إلى رمز للاستعصاء فلقبت بها جامعه الخرطوم أيام عزها ومجدها تغنى وردي لكل الشعراء الكبار في السودان لمحمد الفيتوري وكجراي واسحق الحلنقى وإسماعيل حسن وللأخير مع وردي ثنائيه استمرت لفترة من الزمان فقيل عنهم من يا ترى صنع الآخر إسماعيل أم وردي؟ . جرب شظف العيش مع البسطاء ،ولمواقفه ضد الطغيان والاستبداد جربته المعتقلات وحرم من الغناء في عهد النميري وعند انقلاب البشير والترابي اختار المنافي فلم يعد الى السودان إلا بعد أن أوهنه المرض غصبا عنى وغصبا عنك إنت حبيتني وهويتك لو بأيدنا من زمان كنت خليتني ونسيتك قيل عن صوته أوبرالي وانه يضيف معنا للكلمات التي يتغنى فيها وعندما يصدح بصوته مجاريا ومداعبا الآلات في اللحن تحسب ان هناك صوتا من الطبيعة يجاذبها أطراف الشدو غنى للرحيل في خالدته رحله عصافير الخريف في موسم الشوق الحلو ،للحزن القديم وللون الفرح .ولا أريد أن أجزم بأنه لم يلحن له أحد حتى، لا أظلم النفر القليل إن وجودوا لان مساحات صوته وقدرته الفائقة في إستكناه مكنون الشعر تجعل الألحان إعجازا لا يتأتى لسواه إن صمت تجد صوته في ألحانه وان صدح يملآ الآفاق قمحا ووعدا وتمني) كما كان يحلو له ان يغني يقول أهل الشعر في السودان الحزن لا يتخير الدمع ثيابا كي يسمى في القواميس بكاء هو شي من فتات الروح صدح لجلال السودان منشدا في حضره جلالك يطيب الجلوس مهذب أمامك يكون الكلام ففي جلال رحيله لا نملك إلا أن نقول ونحن نعيش إنسانيتنا التي من بساطتها تعتقد ان الموت لا يقوى على مواجه الإنسان الموقف. ولكن قانون الله فينا يسري وانا لفراقك لمحزونون اللهم ان كان محسننا فزد في حسناته اللهم تجاوز عن سيئاته وارحمه وارحم أهلنا اللهم آمين صحافي من السودان القدس العربي