[email protected] أحالني الدكتور / صديق أمبدة بتعليقه علي الدكتور/ عبداللطيف محمد سعيد, أحالني علي عمود الأخير و الذي يكتبه إسبوعياً في صحيفة الصحافة. و هذه هي المرة الأولي التي أقرأ فيها للدكتور/ عبداللطيف محمد سعيد, إذ أني لا إطلع علي الصحف إلا نادراً, و كل ما يسمح به زمني, هو الإطلاع علي بعض ما ينشر في سودانايل و في الراكوبة و أحياناً في سودانيزأونلاين. كتب الدكتور/ سعيد عن ما سماه ( التضامن النيلي ) في عموده ( ليت شعري ) بتاريخ 13/02/2012م تحت عنوان ( الترابي و الصادق إصطدما بصخرة التضامن النيلي فتحطما ) و كتب مرة أخري بتاريخ 27/02/2012م ( ماذا أعني بالتضامن النيلي ؟). كان علي الدكتور سعيد أن يتناول الموضوع مباشرة, دون أن يشير إلي سبب تحطم الرجلين بفعل هذه الصخرة التي إدعاها, اللهم إلا إذا أراد أن يقول, لسنا وحدنا , و إنما تحطم السيدين كذلك , رغم قوتهما, أمام هذا التضامن النيلي المدعي, و ذلك في إشارة إلي خطورة هذا التضامن النيلي كما سماه. و الحقيقة أن الترابي و الصادق لم يتحطما بفعل هذه الصخرة, و إنما كتبا نهاية تاريخهما السياسي بيديهما, و ذلك رغم تأهيلهما العالي و رغم الإرث الأسري الذي يستندان عليه. لكن لا تتوفر للرجلين قدرات رجل الدولة, الذي يقود بلداً نامياً نحو تحقيق التنمية و البناء, فكان التخبط و كان الوضع الذي يعيشه البلد و لا يحسد عليه. لقد أتيحت للسيد الصادق المهدي الفرصة مرتين لقيادة البلد. المرة الأولي كانت في مقتبل شبابه, أي في عقد الستينات الماضية. و المرة الثانية, كانت في عقد الثمانينات الماضية, بعد أن نضج فكرياً و سياسياً, و قد أتيحت لنا الفرصة للمشاركة في تلك الإنتخابات. لكن ماذا كانت النتيجة ؟ لقد إستند السيد / الصادق المهدي, علي إرث طائفي و إعتمد علي مناطق نفوذ معينة, أكسبته أغلبية ميكانيكية في الإنتخابات التي تمت في الماضي. لكن مشكلة الصادق المهدي , أنه لا يضع إعتباراً لعامل الزمن, و ما يفعله من تحولات سياسية و إجتماعية. و ها هي مناطق نفوذه قد تآكلت بفعل هذه التحولات. و إن كان هناك مناورة مع ما سميته التضامن النيلي, فهي للتعويض عن هذه الفقد الذي حدث. و هي علي كل حال مناورة, مثل اللعب في الوقت الضائع. أما الدكتور / حسن الترابي, فقد أتيحت له الفرصة أيضاً, ليلعب دوره في قيادة البلد, و إن وضع نفسه في هذا المكان عن طريق إنقلاب عسكري تم بليل. غير أن مشكلته أنه أتي بأفكار كبيرة , أي أكبر من طاقة بلد ضعيف في بنيته السياسية و الإجتماعية و تنتاشه الضغوط من كل جانب, و إزدادت هذه الضغوط و إزدادت حدة الصراع, و كانت النتيجة إقصاء الرجل عن السلطة, بسبب التخبط الذي وقع فيه, و من ثم إحتراقه كرقم سياسي. إن مشكلة الترابي, و إن إتسم خطابه برصانة فكرية Sophistication في بعض جوانبه , إلا أنه غلب البناء الفوقي Super- structure علي البناء التحتي Infra –structure, أي شئي بدون ساقين ليقف عليهما !. حاول الترابي تطبيق مشروع كبير, في مجتمع زراعي - رعوي, يعاني من الأمية و الجهل. هذا ما يلاحظه المتابع للغة الخطاب الديني في وسائل الإعلام, و الذي يدور حول مسائل أولية, تعني بفقه الوضوء و الحيض و النفاس و ما شاكله من مسائل.كانت النتيجة, هي السقوط المدوي للمشروع الحضاري, الذي إبتدرته الإنقاذ في بداية عهدها. و كان التخبط الذي وقع فيه النظام الحاكم و لا زال. هذه هي مشكلة النظم الشمولية التي تتخذ الآيديولوجيا مرشداً و تتخذ الثورة و العنف وسيلة لتحقيق أهدافها, و تعمد إلي قطع الزوايا Cutting corners لتحقيق أهداف عاجلة من أجل كسب الشعبية, لكنها تقف بعد حين في منتصف الطريق عاجزة عن فعل شئي يضيف إليها. ثم أن نقطة الضعف الرئيسية في التجربة الإسلامية, أنها لم تقدم إجابة عن أهم مسألة في حياة الناس, و هو المسألة الإقتصادية, أي كيف تتفق المعاملات مع روح الإسلام ؟ لم يكن الإسلاميون صادقين مع أنفسهم و مع الغير, حين خرجوا لنا بهذه التجربة التي فيها من عدم الأصالة ما فيها, و إدعوا أنها إسلامية خالصة. كيف يحترم المواطن, كلاماً يقال , في حين أنه يلمس خطأ التجربة في تعامله اليومي ؟!. و للأسف, فإنه لم ينتج عن ذلك المشروع الحضاري, غير خطرفات هنا و هناك, و هترشة فكرية , تصدر عن أنصاف المتعلمين, الذين إتخذ بعضهم الدين وسيلة لتحقيق مصالحهم الشخصية. و ها هي الجماعات التي يسمونها سلفية, لجأت إلي العنف كوسيلة لفرض رؤيتها, بعد أن كانت تدعي أنها تهتم بإصلاح المجتمع و بناء قاعدة للإنطلاق. أخشي أن يتحول أفراد المجتمع غداً, إلي أمة من الموتورين, كل يحمل عصاه, ليذود عن حماه. هذا يحمي مسجده و هذا يحمي ضريحه, و ذاك يقول لا تدفنوه هنا, فتضيع المصلحة العامة و تسود بيننا شريعة الغاب, مثلما يحدث في الصومال و غيرها, من الدول التي وجدت فيها هذه السلفية موطئ قدم. ماذا تعني بالتضامن النيلي ؟ سادت في الفترة الأخيرة, تعبيرات تصف سكان الجزء الشمالي من السودان, بحدوده الحالية, و هي مصطلحات ( الشمال النيلي ) و ( العصبة النيلية ) و ( النخبة النيلية ) و ( الصفوة النيلية ) و ( الجلابة ). و يقابل هذه التعبيرات , مصطلح الهامش, و هو مصطلح دخل إلي أدبيات السياسة السودانية في الفترة الأخيرة, بإعتبار أن الشمال جزء من المركز, كما يدعي البعض و هو في حقيقته جزء مهمش. و أخيراً أتانا الدكتور/ عبداللطيف محمد سعيد, بتعبير ( التضامن النيلي ). و يبدو أن الدكتور/ عبداللطيف ينتمي جغرافياً ووجدانياً إلي منطقة أخري. هذا ما عرفته من تعليق أحد الكتاب, لذا يبدو متحاملاً علي هذا الشمال. ما ذنب هذا الشمال,حتي يتحدث البعض بهذه اللغة التي فيها شئي من الغبن و كأن أبناء الشمال هم من تسبب في خلق مشكلات هذا البلد وحدهم دون غيرهم ؟. لا أقول أن كثرة الأسماء تدل علي شرف المسمي, و ذلك حتي لا يتهمني أحد أني أمارس تعالياً علي غيري, بإعتباري من أبناء هذا الشمال و تحديداً من منطقة دنقلا. و أقول صراحة , أننا جيل يختلف عن سابقه. ولد جيلنا بعد الإستقلال ووجد وضعاً إجتماعياً يختلف عن الوضع الذي كان سائداً فيما مضي من زمن , و بالتالي يتعين علينا, أن نستغل هذا الوضع الذي نشأ من أجل مصلحة هذا البلد, و ذلك دون حساسية أو إنتقاص من قدر الآخرين. أشير هنا إلي ما يقوله البعض عن أبناء الشمال من عصبية و صفوية و نخبوية و تضامن, ذلك أن البعض يستخدم هذه الأوصاف, في إشارة إلي أن أبناء الشمال, يمارسون هذه العصبية و الصفوية و النخبوية و يتضامنون ضد الآخرين. هذا غير صحيح, إذ لا يعرف لسكان شمال السودان عصبية قبلية و لا تكتل و لا صراع قبلي, إذ إنتهت هذه الحمية العصبية منذ أكثر من مائتي سنة, و ذلك ببداية الحكم التركي و فرض النظام الإداري الحديث. إن الإرتداد إلي حضن القبيلة و إذكاء الروح القبلية, هو من سمات التخلف. و لا يعقل أن يرتد الناس إلي هذا الوضع, بعد كل هذه السنين الطويلة من السير في طريق التطور الحضاري. و إن كان هناك إحتقان و إفرازات تبدو هنا و هناك, فهي تعبير عن أزمة الحكم الشمولي, حيث يرتد البعض إلي الماضي و إلي حضن القبيلة ليجدوا فيه ملاذاً آمناً. لكن سرعان ما يزول هذا الإحتقان و هذه الإفرازات, متي ما تنسم الناس عبير الحرية. و بالتالي لا أري داعياً لهذا التوصيف, إلا إذ أراد البعض إستخدام الجدل الهيجلي, عند الحديث عن ما سموه الهامش و المركز, أي الشئي و نقيضه. عند ذلك يكون الحديث مجرد سفسطة و لا طائل من ورائه. نعم قدمت الشمالية صفوتها أو نخبتها Elites و هي لعبت دوراً مقدراً في نهضة هذا البلد و لا زالت. و إن كان الإصطفاء أو الإنتخاب لا يقتصر علي الشمالية وحدها, ذلك أن كل أنحاء البلد قدمت صفوتها التي شاركت بدورها في هذه النهضة. إذن لماذا النظر و الإدعاء, أن أبناء الشمالية يمارسون التعالي علي غيرهم و يهضمون حقوقهم ؟! الصفوة و بحكم وضعها الإجتماعي و قوتها, هي التي ينبغي أن تقود التغيير و تحدثه. و إذا لم يكن ذلك كذلك فمن يقود التغيير؟ نعم تراجع دور هذه الصفوة في السنين الأخيرة, بسبب الأخطاء التي وقع فيها هذا النظام الحاكم, و ذلك بإنتهاجه لسياسة التمكين, و يعني تفضيل أهل الثقة و الولاء و إن كانوا أقل كفاءة. هذا أحد أسباب ما تعانيه البلد من مشكلات أطلت برأسها في السنين الأخيرة. و السؤال الذي يثور : هل إستقطب النظام الحاكم أبناء الشمالية وحدهم, ليتضامنوا و يشدوا من أزر النظام و في مواجهة أبناء المناطق الأخري ؟ إني أري في هذا القول خطأ بالغ و ضرر علي السلام الإجتماعي. هاهو السيد/ الصادق المهدي قالها بملء فيه. و يبدو أن الرجل و رغم أدبه الجم , تضايق مما يجري من أحداث تخص حزب الأمة. قال عن منتقديه , هؤلاء هم أحفاد أعوان الإستعمار. يعلم السيد/ الصادق المهدي, من تعاون مع الإستعمار الإنجليزي و لماذا تعاونوا. قال شاعرهم يومها : يا الإنجليز ألفونا. و هذا تعبير عن الظلم الذي حاق بالأهلين وقتها. إن صدي الأحداث التي وقعت في تلك الفترة, أي فترة المهدية, لا زال يتردد في النفوس و أن إستدعاؤها يولد المرارات. و بالتالي إذا كنا نريد سلاماً إجتماعياً و الإبقاء علي هذا البلد موحداً, فلابد من أن يجتمع الناس علي كلمة سواء, و أن ينبذوا الماضي و أن يتطلعوا إلي المستقبل في ثقة و تسامح, و هذا هو ديدن السودانيين. قال البحتري : إذا إحتربت يوماً فسالت دماؤها ××××× تذكرت القربي ففاضت دموعها. نعم هناك أخطاء حدثت في الفترة الأخيرة, بسبب خطل سياسات هذا النظام الحاكم. لكنها أخطاء ليست عصية علي الحل, إذا توفرت الإرادة و إذا إنعقد العزم علي تناولها. و أول خطوة في هذا الإتجاه, هو أن يجلس الفرقاء في صعيد واحد لتناول هذه المشكلات بالبحث, و ذلك بدل من الحديث المكرور عن هذه الأخطاء و إغفال ما أنجز من عمل. ليس هذا من الإنصاف. يقول نابليون : لو أن التاريخ أخذ في إعتباره الأخطاء وحدها و لم يسجل المنجزات التي حققها الرجال, فلن تجد رجلاً واحداً يمكن أن نقول عنه أنه كان رجلاً عظيماً.