[email protected] اليوم بعد أن هدأت الخواطر وخفَّت حدة اختلاج المشاعر والأحاسيس وروى الشيوعيون ومناصرو حزبهم بالدمع السخيين تراب الوطن حزنا على رحيل القائد الفذ والمناضل الأطهر السكرتير العام الأستاذ محمد إبراهيم نقد، مثلما رووا من قبل هذا الثرى العزيز بالدم في فواجع وملمات سابقات يفيض بها تاريخ الحزب ومازالت بعض جراحها نديةً في قلوب الرفاق والمنحازين لبرنامجهم الباحث بلا كلل عن الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. فقد حان وقت كفكفت الدموع وطي ملف الأحزان في حنايا الوجدان وجمع شظى الروح التي طارت شعاعا وأسًى ولوعة على فراق من قدموا العمر وناضلوا ما في وسعهم من أجل عزة وكرامة هذا الوطن دون منٍّ أو أذى وخرجوا من هذه الفانية كما دخلوها أطهارًا أبرارًا دعاة حرية وعدل ومساواة راضين قانعين بما بذلوا مرضين عنهم من الجموع التي خرجت حاشدة وتودعهم في كرنفالات الحزن النبيل في تعبيرٍ صادقٍ عن مدى الحب والتقدير وعمق الرضا ، فشعب السودان الأبي يمتاز بفراسة استثنائية ومقدرة عبقرية على التمييز بين الخبيث والطيب. لقد كان لرحيل هذه الكوكبة من أهل اليسار وعلى رأسهم (الحكيم) نقد وقع الفاجعة في قلوب الكثير من أفراد الشعب والقيادات الحزبية الوطنية التي خبرت مقدراتهم وصدق وطنيتهم فهالها الفقد في هذا الوقت العصيب والوطن في حاجة لجهد كل أبنائه الخلص وهو يكابد جاهدا من أجل الخروج من وهدته التي حشر فيها بغير هدى. فغياب "الحكيم" نقد عن الساحة السياسية السودانية في هذا الوقت هو خسارة وطنية فادحة يصعب تعويضها لا تخص حزبه فقط بل ترمي بظلالها الرمادية الحزينة على مجمل المشهد السياسي فالرجل محترف سياسة بارع لا يشق له غبار يقر ويجمع على صدقه وحسن خلقه ومقدراته الاستثنائية أعداء فكره قبل الأصدقاء حتى تكاد تخلو الساحة السياسية السودانية اليوم من قائد نال ما ناله "الحكيم" من حب وتقدير واحترام وإجماع وهذا ليس وليد صدفة؛ بل كان نتيجة تضحيات ضخمة قدمها الرجل منذ أن ولج سوح السياسة مناضلا ضد المستعمر واستمر راهبا متبتلا في محراب النضال منحازا للطبقة العاملة منافحا عن قضاياها وحقوقها زاهدا عما سواها دفع العمر كله قربانا ومضى في طهر القدسيين دون أن يتلوث ثوبه الناصع بأدران المناصب والامتيازات وسقط المتاع التي يتدافع غيره من القادة لنيلها والتمتع بها. لقد كان الرفيق "نقد" بحق شعبة أساسية من شعاب العمل السياسي وركيزة أصيلة من ركائز استقرار الوطن وأمنه لا يستطيع إلا مكابر أخرق أن ينكر هذا الأمر وكان تبوءه لهذه المكانة لإنسانيته وتجرده وانحيازه الصادق لأحلام وتطلعات المهمشيين والكادحين ونضاله المستمر من أجل إحقاق الحق ورفع الظلم حيث لم يكتف مثل البعض بأضعف الإيمان بل سخر كل حياته لوضع برنامج حزبه موضع التنفيذ قافزا فوق قيود وعقبات كثيرة متحملا الاعتقال والتعذيب وحياة المخابئ المعتمة أملا في إسعاد جماهير شعبه ولم ينحصر جل همه في حياة حزبه بل تعداها مناصرا ومدافعا عن كل فردٍ صاحب قضية عادلة وهنا تتجلى عظمة الرجل الذي عشقته الجماهير من كل ألوان الطيف السياسي فتسرب نهجه وفكره وسيرته العطرة لتجد مرتعا خصبا وسكنا عامرا في قلوب ووجدان غالب أهل السودان. تولى الأستاذ "نقد" قيادة الحزب الشيوعي في ظروف استثنائية بالغة الخطورة والتعقيد وفي ظل هذه الظروف الحرجة اختاره الرفاق داخل اللجنة المركزية واجمعوا عليه لما يتحلى به من مقدرات فكرية وتنظيمية عالية أهلته أن يكون رجل تلك المرحلة الخطيرة بحق فلم يخذل رفاقه ولا جماهير حزبه واستطاع في وقت قياسيّ وجيز تجميع شتات الحزب الذي انفرط عقده عقب أحداث 19 يوليو71م الدامية وذابت أغلب هياكله وعضويته التي جرفها سيل التعسف والتنكيل المايوي. تصدى الحكيم الفذ بكل همة ومسئولية لذاك التكليف الثقيل ونجح في تخطي مرحلة الخطر والخوض في بحر الدماء الهادر والوصول بالحزب وما تبقى من عضويته وهياكله لبر الأمان في ثقة ورباط جاش وأرواح رفاقه الشهداء مازالت ترفرف في معارجها صعودا لدار الخلود، وعلى الرغم من الهجمة المايوية الشرسة وسياسة الملاحقة والتنكيل الهمجية التي كانت تستهدف تصفية كيان ووجود الحزب تفرغ الرجل وانطلق في أجواء السرية والخطر لصياغة التكتيك والإستراتجية الملائمة لمرحلة ما بعد (المجزرة) حيث أعاد بمعاونة ما تبقى من رفاقه في اللجنة المركزية والمكتب السياسي بناء كافة الأطر وهياكل الحزب التي تهدمت واهتم اهتماما خاصا باستقطاب الكادر المصادم المتميز وتأهيله التأهيل الذي يتناسب والمرحلة الموحشة التي يمر بها الحزب وفي ذلك يشهد له رفاق الدرب أنه قد أدى الأمانة وأكمل الرسالة بكل براعة وحنكة وعلى الوجه الذي يجعل منه أسطورة ماثلة تمشي بين الناس على رجلين في كل تواضع وأدب جم تتقاصر دونها الهامات. لقد صب الزعيم "نقد" عظيم خبرته السياسية في تفريخ كوادر قيادية نوعية لا يستهان بمقدراتها تستطيع اليوم تقدم الصفوف وجسر الهوة التي خلفها رحيله الفاجع فقد أفنى "الحكيم" عمرا بأكمله من أجل تعبيد الطريق وتمهيده ليسير عليه رفاق المرحلة القادمة وكان يعمل في صمت وجلد لمثل هذا اليوم الذي كان يعي ويؤمن بحس الصوفي المتبتل حتمية قدومه ولسان حاله يقول للمشفقين على مستقبل الحزب واستقراره أن هذا الكيان الشامخ راسخ الأساس في عمق التراب الوطني عصي عن الزلزلة ولو فاقت الهزة الثمان درجات على مقياس (ريختر) أما الآخرون فعليهم أن ينتظروا طويلا حدوث ما يتخيلون ويفترون ويروجون من أحاديث الإفك على صدر الصحف الصفراء المأجورة عن الصراع المحتدم في أروقة الحزب على "الخلافة"!!! وإنا معكم لمنتظرون. اللهم إنا قد أودعناك من نحب عبدك الصالح "محمد إبراهيم نقد" فتقبله يا حنان يا منان قبولا حسنا وأنزله عندك منزلا حسنا واغمره بفيض عفوك وغفرانك واجبر كسرنا فيه إنك نعم المولى ونعم النصير. تيسير حسن إدريس