قراءة تانية سكر حلو.. سكر مر السر قدور كنا (فرقة الفنانين المتحدين) في طريقنا لتقديم عرض مسرحي في مدينة نيالا عام (1970م) وخلال الرحلة توقف البص بنا في بابنوسة بالقرب من مصنع تجفيف الألبان الذي تمّ افتتاحه في أيام حكومة الرئيس المرحوم إبراهيم عبود.. كان المصنع متوقفاً عن العمل وعلمنا عندما سألنا أن سبب توقفه هو عدم وجود الألبان اللازمة لتشغيله لأنّ أصحاب الأبقار أخذوا أبقارهم بعد نهاية فصل الخريف وذهبوا بها إلى مراعٍ أخرى بعيدة عن المصنع وأنّ أمر هذه الهجرة السنوية بالأبقار لم يتم الالتفات إليه عند إنشاء المصنع، ولكن بعد يومين سمعت حديثاً آخر من أحد العاملين في المصنع من أبناء مدينة نيالا الذي ذكر بأنّ هذا الأمر كان في الحسبان وكان هناك اتفاقٌ على توفير سيارات (ثلاجة) لنقل الألبان من الأماكن البعيدة عند هجرة الأبقار، ولكن الشركة التي تعاقدت على تَوفير هذه السيارات لم تقم بإرسالها مما أدّى إلى تعطيل العمل في المصنع وتحويله بعد ذلك إلى سحن وتعبئة (الكركدى). وما حدث لمصنع بابنوسة حدث بعد ذلك للعديد من المصانع التي تأسّست في أيام حكومة الرئيس عبود ومنها مصنع تجفيف البصل في كسلا ومصنع تعليب الفاكهة في الشمالية ومصانع أخرى لم تحقق المستهدف منها بسبب نقص قطع الغيار وصعوبة الإحلال والتجديد، وقد ظلت التنمية الصناعية في السودان تواجه العديد من المشاكل لا بسبب التقصير من المسؤولين بل بسبب سياسات مُخطّطة من الخارج لتعطيل التنمية في بلدان العالم الثالث حفاظاً على أسواق البلدان الرأسمالية المتحكمة في صناعة الآلات وقطع الغيار اللازمة لها، وبعد الثورة المصرية الأخيرة تحدث عَدَدٌ من الاقتصاديين عن التخريب والتعطيل المبرمج والمتعمد لعددٍ كبيرٍ من المصانع المصرية التي قامت خلال الفترة الناصرية فيما عُرف بالنهضة الصناعية التي قادها وزير الصناعة الراحل عزيز صدقي، وأعلن كمال الجنزوري رئيس وزراء مصر قبل أيام أن عدد المصانع التي توقفت عن العمل خلال الثلاثين عاماً الماضية تقترب من ألف مصنع، والعمل على تعطيل التنمية الصناعية في السودان لا يرتبط بعهدٍ من العهود، فقد ظل هذا التعطيل يجري في كل العهود فهو سياسة ثابتة لا تفرق بين عهدٍ وعهدٍ أو حكومةٍ وحكومةٍ. وتعطيل افتتاح مصنع سكر النيل الأبيض يأتي ضمن هذا الإطار واستمراراً لهذه السياسة المصنوعة في الخارج، ولابد لنا من مواجهتها أولاً بحسن اختيار الشركاء، وثانياً دراسة كل الجوانب قبل التعاقد مع المنفذين، وثالثاً أن نعتمد ونحن نقيم المؤسّسات الصناعية على الدول والمؤسّسات الصديقة التي تريد لنا الخير ولا تضمر لنا الشر. لقد كان السيد وزير الصناعة شجاعاً وهو يقدم استقالته مُتحمِّلاً المسؤولية عما أدى إلى تأخير افتتاح المصنع وكان أمراً جيداً رفض هذه الاستقالة لنقابل التحدي بتحدٍ أكبر ونعيد تقييم الأوضاع ليتم افتتاح المصنع سريعاً كما تَمّ الإعلان عن ذلك. ولكن قبل كل هذا علينا أن نتعظ من تجارب الماضي البعيد والقريب حتى نتذوّق طعم السكر الحلو بديلاً عن طعم سكر الأعداء المُر وعلينا دراسة الماضي لا للافتخار بما حققناه وإنما لمعرفة السلبيات التي وقعنا فيها حتى نتجنبها. الراي العام