غرس الوطن كسب الديمقراطية الثالثة في مجال الهموم اليومية:التموين والمعيشة أم سلمة الصادق المهدي نعود لمواصلة ما انقطع من اسهامات قدمناها عبر سلسلة من خمس مقالات سابقة كنا قد قاطعناها بمقال عن احداثيات الهيئة المركزية لحزب الأمة «6-7 ابريل 2012» التي شهدت نتائجها ومجرياتها بخلاصة اسهاماتنا التي تريد أن تؤكد أهمية و جدوى ضوابط الديمقراطية في كل أداء. سبق لنا أن تناولنا في مقال :« الشموليون في عقبة الاقتصاد والتنمية» كيف تمت ادارة الاقتصاد والتنمية بنجاح في ظل الديمقراطية الثالثة مقارنة بما عاسه الشموليون في مايو والانقاذ. وقد كانت جزئية تتعلق باستراتيجية الدولة وخططها على المستوى الأكبر«الماكرو» ونتناول اليوم قضية التموين والمعيشة وهي من قضايا هموم الحياة اليومية التي تجابه المواطنين والتي تُعنى بادارة الاقتصاد على مستواه الأصغر« المايكرو». جاء في كتاب الديمقراطية راجحة وعائدة الذي قلنا اننا نتتبع من خلاله أداء الديمقراطية الثالثة ان السودان لم يعاني من المشاكل التموينية قبل 1969م في الأحوال العادية لأن انتاجنا المحلي كان كافيا لسد حاجة المواطنين وكنا نصدر أكثر مما نستورد. مما أتاح لنا رصيدا من العملات الصعبة، فمول به كل حاجتنا من الواردات، بنظام كان يسير بكفاءة وكانت الحكومة تحتكر بعض الواردات مثل السكر والبترول وتوزعه ميدانيا عبر قنوات محددة وكانت البنوك القائمة في البلاد تمول تجارة التصدير والاستيراد والتجارة الداخلية. مثلما هو متوقع قامت مايو بتغيير هذا النظام لربط التوزيع الميداني بقنوات الاتحاد الاشتراكي، ليشتري بها الولاء السياسي من القاعدة الشعبية. و نشأت من جراء ذلك سبع مشاكل في مجال التموين في ظل مايو نستعرض فيما يلي كيف تمت مجابهتها وحلها في ظل الديمقراطية الثالثة: الاضطراب السكاني، اللاجئون،النازحون، قنوات التوزيع، تدني الانتاج المحلي، اضطراب الاستيراد،الفساد التجاري. الثلاث مشاكل الأولى«الاضطراب السكاني،النازحون واللاجئون» مشاكل مرتبطة بالكوارث الطبيعية مثل الجفاف الذي ضرب السودان في عامي 83-84 والكوارث من صنع الانسان مثل الحروب التي استعرت في السودان بين الجنوب والشمال عام 1983 بأشد مما كانت بعد خرق النميري لاتفاقية أديس أبابا التي كانت قد كبحت جماح تلك الحرب لعشر سنين خلون .وقد طال التشوه الديمغرافي المدن الكبيرة التي قصدها النازحون بسبب عوامل الطرد من الريف لنقص الخدمات وانعدام فرص العمل وعوامل الجذب في المدن ، حتى بلغت نسبة زيادة سكان المدن الكبيرة في السودان في الأعوام الأخيرة في عهد مايو 8 % في السنة.ورثت الديمقراطية هذه الأوضاع حتى قدرت معتمدية العاصمة سكانها في عام 1988م بعدد 7 ملايين. مع أن تعدادها الذي قامت عليه المعادلة التموينية لا يزيد عن 3.5مليون. الخطوات التي اتبعتها الديمقراطية لمعالجة الوضع المشوه : 1- لقد شرع في اجراء تعداد جديد لسكان السودان .ومن ثم تقرر وضع سياسة سكانية قومية، تحدد ماهو الوضع الأمثل بالنسبة للنمو السكاني، ولنسبة الحضر للريف، وما هو الهرم السكاني الأمثل، ماهو الكم والنوع الذي ينبغي أن يكون عليه سكان السودان.لقد وجهت تساؤلات محددة في هذا الصدد للمؤتمر السكاني الثالث الذي عقد في الخرطوم في تشرين الأول أكتوبر 1987م، وكونت لجنة قومية انبثقت في المؤتمر لوضع مشروع سياسة قومية مثلى للسكان في السودان. 2- لجأ الى السودان عدد كبير من جيرانه من أثيوبيا ومن تشاد ويوغندا حتى بلغ العدد مليوني نسمة. هذا العدد الكبير انتشر في السودان في شرقه وغربه ووسطه وجنوبه دون وجود برنامج سوداني واضح نحوهم سوى كرم الضيافة المعهود في أهل السودان. ومنذ أن اتضح غياب سياسة محددة نحو اللاجئين تم تعيين لجنة قومية برئاسة البروفسير مدثر عبدالرحيم لدراسة المشكلة من كل أبعادها وآثارها السلبية على السودان.وما ينبغي عمله لمصلحة اللاجئين ولحماية مصالح السودان.عكفت اللجنة على دراسة الموقف ثم رفعت تقريرها تجد تفاصيله في الكتاب». زاد من وقع تلك المشاكل المتعلقة بزيادة عدد السكان ما تبقى من مشاكل«تدني الانتاج المحلي، قنوات التوزيع،اضطراب الاستيراد والفساد التجاري» .فكان ما ينتج على قلته يضيع بسبب قنوات التوزيع وأولويات الاستيراد الخاطئة والفساد. تدني الانتاج: فيما يختص بالانتاج المحلي فقد كانت المواد التموينية الضرورية وهي السكر- الخبز-الوقود- الذرة-زيت الطعام-والسلع المصنعة«الصابون-الأقمشة الشعبية-الكبريت-حجارة البطارية-الأحذية»تنتج غالبا في السودان والباقي يتم استيراده. المدخلات اللازمة للصناعة السودانية كيما ترتفع نسبة انتاجيتها الى المستوى المطلوب تبلغ قيمتها 300مليون دولار في السنة.تدنى الانتاج الصناعي في عهد مايو لعدم تمكن توفير المبلغ المذكور الى متوسط 25% من الطاقة الانتاجية للمصانع. وفي عهد الحكومة الديمقراطية أمكن توفير حوالي 50% الى 60%من المبلغ المطلوب مما رفع الانتاج ولكن ليس للحجم الذي يغطي الحاجة تماما،الا في بعض السلع.يستطيع القاريء الكريم الاطلاع على التفاصيل في الكتاب المبذول في موقع حزب الأمة ويلاحظ المتفحص أن توفير السلع المذكورة كان يتم وفق جهود مدروسة يشترك فيها المختصون لذلك ترى فيها كثيرا من الحلول المبدعة مثلا بالنسبة لتوفير الرغيف :تجربة خلطه بالذرة المتوفر محليا والبترول تم الاتفاق مع دول عديدة لتزودنا بالبترول مقايضة برميلا ببرميل بعد بدء انتاج البترول السوداني الذي كان قد تم اكتشافه . قنوات التوزيع: المشاكل الأخرى مثل قنوات التوزيع التي حاول النظام في الديكتاتورية الثانية الربط بين التموين والولاء السياسي وضعت الحكومة الديمقراطية ضبطا لذلك: «توحيد قناة توزيع المواد التموينية،ضبط التوزيع عن طريق بطاقات تموينية توزع على المواطنين ويدون فيها ما يشترون،اعادة تحديد حصص العاصمة والأقاليم على أساس واقعي،قيام لجان شعبية للرقابة،الاسراع بتكوين المجالس المحلية على أساس ديمقراطي لتشرف على سير التموين،اقامة جهاز مباحث تموين لضبط التوزيع ومراقبة الأسعار ومحاصرة السوق الأسود».كما تم تكوين لجنة قومية برئاسة د.الجزولي دفع الله تم تكليفها بدراسة الأمر وتقديم توصيات بشأنه، بما في ذلك مشروع قانون للحكم المحلي الديمقراطي.وقد أنجزت اللجنة مهامها بتقديم دراسة جيدة ومشروع قانون للحكم المحلي .حيث استعرضت الحكومة ذلك التقرير وأدخلت عليه بعض التعديلات ولكنها أجازته في جوهره. اضطراب الاستيراد ان العجز في الميزان الخارجي معناه أن السودان لا يستطيع -كما كان الحال قبل 1969م أن يغطي ما قيمته 500مليون دولار. لقد استطاعت الحكومة المنتخبة عبر الأعوام الثلاثة أن تسد الفجوة بالقروض والمنح وموارد المغتربين. واستطاعت ترشيد استيراد السلع الكمالية والتركيز على استيراد السلع الضرورية. ورغم الحاجة الماسة فان الحكومة الديمقراطية استطاعت أن تفي بحاجة البلاد التموينية بنسبة عالية «70%» أكثر مما كان عليه الحال في السنوات الأخيرة في عهد مايو. وطبعا أكثر كثيرا مما صار اليه الحال في عهد الديكتاتورية العسكرية الثالثة. الفساد التجاري لقد تطور جهاز متعدد القنوات، كثير المنتفعين، هو جهاز السوق الأسود.وصارت له قنوات تمويل داخل وخارج السودان« استخدمت وسائله الجبهة الاسلامية كذلك». واكتسب خبرات ومهارات وزبائن.ووجد السبيل للتعامل مع شركات أجنبية وقوى عديدة حتى صار مافيا شرقية«مقابل مافيا الغرب ايطالية الأصل».هذا الكيان هو أحد آثار مايو الخطيرة جدا على السودان وقام الى جانب ذلك المارد التجاري كيان آخر يعمل بالتهريب.فتم تهريب الصمغ العربي والسكر الى أثيوبيا وتشاد وأفريقيا الوسطى وتهريب الشاي والبن والخمور من زائير وأثيوبيا.وتهريب الجمال الى مصر وأثيوبيا وليبيا بالاضافة الى تهريب الضأن الى السعودية وتهريب السجائر منها.تم وضع برنامج لمحاربة السوق الأسود والتهريب.مع أن ذلك البرنامج لم يحقق النجاح المطلوب بسبب خلافات سياسية لكنه حقق بعض النجاح الذي كان يرجى له التقدم خاصة ونظم الديمقراطية لا توفر حماية لتلك الأنشطة بطبيعتها بينما في الشموليات يتمدد الفساد ليكون بنيويا مرعيا بالسلطة ومحاسيبها. غني عن القول أن تلك المشاكل في التموين والمعيشة والتي ورثها النظام الديمقراطي وقد رأينا كيف مضى برشاد وتوفيق وفي زمن وجيز في علاجها بصورة ملحوظة، هذه المشاكل كلها تضاعفت أضعافا كثيرة في عهد الديكتاتورية الثالثة فقد رأينا كيف تشوهت الخريطة الديمغرافية وصار الريف طاردا لدرجة أن د.جعفر ميرغني قد كتب في مقال له عن «مدينة رحلت مكانها»، مشيرا فيه لظاهرة ترييف العاصمة وزاد عدد سكان الخرطوم تلك التي أسست خدماتها لنحو 3.5مليون لتبلغ ما يزيد عن ال9 ملايين نسمة ! أما تدني الانتاج فقد شهدت به ميزانية 2012 التي لا تدعم الزراعة ولا الصناعة ولا الموارد البشرية« ونرى اليوم وزير المالية يقر بوجوب مراجعة الميزانية المعتمدة على موارد افتراضية لا يمكن تحصيلها بعد الحرب مع الجنوب! مما يعدنا بمزيد من التشوه وشح الصرف على الانتاج والخدمات »ويشهد به المزارعون المعسرون في السجون ويشهد به أصحاب المصانع الذين يقولون ان المصانع توقفت عن العمل بنسبة 75%. وعن الأولويات الخاطئة في الاستيراد يحدثنا د.التجاني الطيب :«بلغت فاتورة الاستيراد 2.5 مليار دولار سنويا وصادراتنا لاتصل الى مليار دولار»«التجاني الطيب،ندوةغلاء المعيشة ،الأسباب،التداعيات والحلول». بالنسبة لقنوات التوزيع فاعطاء الحقوق على أساس الولاء للمؤتمر الوطني سيرة يتحدث بها الركبان ولكل منا في تجربته مع دولة الانقاذ قد تكون واجهته عقبات الحصول على الحقوق «وظيفة أو خدمة أو غيرها»من الحكومة ان لم يظهر الولاء للمؤتمر الوطني وفي أحيان كثيرة يكون عليه مقايضة الحصول على الخدمة المطلوبة مقابل بطاقة عضوية المؤتمر الوطني. أما الفساد التجاري والرخص التي تعطى للمحاسيب والاقتصاد الذي صار خصوصيا ويمتلك أكثر من 1500 شركة لا تعمل بقوانين الاقتصاد المعروفة مما أزكمت رائحته الأنوف وطفحت به الصحف اليومية والسايبيرية فغني عن الأقوال. ونستطيع هنا الاستشهاد بما كتبه أ.جمال عدوي في : «قراءة جديدة لملفات الديمقراطية الثالثة» المنشور في الوطن 26 مارس 2012 «عموما لا بد من تقرير حقيقة جوهرية ناصعة وهي ان تجربة الديمقراطية الثالثة في السودان قد كانت ايجابياتها اكبر من سلبياتها ومثل ما ظل مفكرون كثر يرددون بأن » أخطاء الديمقراطية تعالج بالمزيد من الديمقراطية«ويستمر أ.جمال عدوي ليقرر:« بأنه حقا، لم يكن لاي طرف او قوى الحق في الاطاحة بالنظام الحزبي التعددي، الذي ظل يمثل خيارا اساسيا ارتضاه الشعب السوداني.. لذلك لا بد من التأكيد وفي زمن انتصار ثورات الربيع العربي بأن قطار السياسة بالسودان لا بد له من العودة الى سكة الديمقراطية التي تؤمن حقوق جميع القوى الحزبية في العمل والتنافس بحرية لنيل ثقة الناخبين عبر خيار الانتخابات الحرة. ونقول بأن الاخلال بمسار التداول السلمي للسلطة دائما ما يكون هو السبب المباشر لتولد الأزمات وتفاقم المشكلات السياسية مما يخلق واقعا سيئا يدفع ثمنه الشعب بكافة فئاته». انتهى وتصح تلك الشهادة على جميع المستويات سواء في مجال الاستراتيجي أو على مستوى ما نناقشه اليوم بخصوص التموين والمعيشة فالأمور يتم تدبيرها وانجازها بصورة أفضل في ظل النظم الديمقراطية والأسباب واضحة:اشراك الناس في ادارة شأنهم،شورة ذوي الاختصاص والخبرة في المجال المعين ،الشفافية والخوف من المحاسبية كلها أشياء تجعلنا نقول باطمئنان ان الفلاح والانجاز ديمقراطي. وسلمتم