الإسهامات المطلوبة قبل اليوم الموعود «8».. السلام في السوان يعود، إن عادت للسودان عافيته أم سلمة الصادق المهدي كسب الديمقراطية الثالثة في الملف الذي نحن بصدد بسطه في مساحة اليوم يشهد لها بالرجحان وحتمية العودة مثله مثل غيره من ملفات سبق أن تعرضنا لها خلال الشهرين الماضيين اهتداء بكتاب «الديمقراطية راجحة وعائدة» للامام الصادق المهدي :الكتاب الذي رصد مكامن القوة والضعف في مسيرة الديمقراطية الثالثة 8689 في السودان . من المعلوم أن الحديث عن السلام في السودان كان يختص حصريا بما كان يعرف في الأدب السياسي السوداني بمشكلة أو مسألة جنوب السودان . والتردي النوعي المتصاعد الذي طال قضية السلام في السودان منذ أن وقعت الانقاذ في 30 يونيو 89 ،هو توسع تلك القضية بشكل مستمر ومخيف لتشمل دارفور و«بنات نيفاشا» أو ما أصبح يعرف بالجنوب الجديد:أبيي،النيل الأزرق وجنوب كردفان «جبال النوبة» والسبحة على الجرار في ظل التهديد بقيام حرب شاملة تعم كل أجزاء الوطن بحسب الدراسة التي قدمها ماريك شوميروس وتيم ألن عن أن قيام دولة جديدة في الجنوب قبل رسم الحدود الداخلية بين القبائل والوحدات الادارية سوف يؤدي لاحتراب بينهما «الصادق المهدي، ورقة أثر الاستفتاء على موارد المياه في السودان، ورشة عمل حول الاستفتاء وأثره على مستقبل السودان، جامعة الخرطوم - كلية القانون،24 نوفمبر 2010». نستطيع الولوج لما نريد قوله بالخصوص بتعميم غير مخل :أن مشكلة جنوب السودان التي صدعت الرؤوس في كل مراحل تاريخنا السياسي منذ استقلال السودان في 56 كان يتم التعامل معها في ظل الديمقراطيات بحكمة تفضي الى حلول وشيكة يقطع طريقها انقلاب يرمي بالحلول المتراضى عليها عرض الحائط«حدث هذا في 58 عند الاتفاق في أواخر 55 على اعلان استقلال السودان من داخل البرلمان بشرط أن ينص على النظام الفيدرالي بين الشمال والجنوب لدى بحث دستور السودان، في الديمقراطية الثانية اتفق على نظام حكم اقليمي قطع الطريق اليه انقلاب مايو 69، وفي الديمقراطية الثالثة اتفق على المؤتمر الدستوري في سبتمبر 89 فوقع انقلاب يونيو 89! ويحل بدلا عنها الحلول الأمنية التي لا تستطيع أن تحقق نصرا نهائيا في الميدان وتعقد المشكلة بشكل دراماتيكي مضيفة مزيدا من مرارات الدم والدمار وهو ما يمكن إرجاعه أو تفسيره على ضوء الطرق التي يعمل بها كلُُ من النظامين، الديمقراطي والدكتاتوري: فالديمقراطية بطبيعة ضوابطها المعروفة تعمد الى معالجة المشاكل بإشراك أصحاب الشأن والمصلحة وبمراعاة العدالة وسيادة حكم القانون والمصالح الوطنية العليا للبلاد وسواها من ضوابط لتخرج بحلول متفق عليها لا ترم الجروح على فساد. بينما تتصف كل ديكتاتورية بضيق الأفق وضيق الماعون لأنها تقصي الآخرين وتجنح للحلول السريعة والأمنية «سياسة النفس القصير وقلة الصبر». فإن توفرت الظروف الملائمة للاتفاق بين المتحاربين من أبناء الوطن الواحد بسبب تغير المناخ الدولي، لصالح أن يسود السلام، نجد أن تلك النظم تجنح للسلم فقط إن يئست من النصر وإن كثرت عليها الضغوط الخارجية والإملاءات، فهي النظم الأسرع استجابة للحلول المفروضة من الخارج دون التفات لموضوع السيادة أو المصالح الوطنية:لأن أولوية تلك النظم المغتصِبة حتى الخانة العاشرة هي: البقاء في السلطة مهما كان الثمن .لكن تلك النظم الانتهازية مع تلك الإستجابة المهرولة للسلم المفروض عليها بأجندة الخارج هي الأسرع تنصلا منه والأسرع في نقض غزلها بيديها لتعود الحروب بصورة أكثر تفجرا وضراوة. وقد أعاد التاريخ نفسه بصورة مبكية مضحكة في اتفاقيتي أديس أبابا وفي نيفاشا. عقد نظام النميري في 1972 اتفاقية أديس أبابا برعاية الامبراطور الاثيوبي هيلاسيلاسي بعد تحول النظام المايوي الى اليمين وبعد أن هدأت الحرب لمدة عقد من الزمان ، قام النميري بنقض اتفاقية اديس ابابا باصداره لقرار تقسيم الجنوب مخالفا بذلك نصوص الاتفاقية التي لم تكن تكفل لرئيس الجمهورية ذلكم الحق ولكن نميري بذهنية المستبد المتسلط رد على معارضيه بأنه من عقد الاتفاقية وهو الذي يحق له نقضها أو رميها في البحر إن شاء! ما أدى لانطلاق الحرب في 1983 بأعنف مما كانت وإلى بروز حركة الانانيا 2 ثم الحركة الشعبية الأكثر تمكنا وتسليحا على خلفية الأحلاف الاقليمية والسند الدولي«حلف عدن ومساعدة روسيا ». وقد تكرر ذات السيناريو في اتفاقية نيفاشا التي عقدها نظام الانقاذ في 2005 عندما رأت امريكا أن مصلحتها في البترول وغيره تقتضي فرض السلام في السودان في ظل نظام سوداني «يسمع الكلام». لكن نظام الانقاذ المؤدلج ذي النوايا الشيطانية الشريرة بأضعاف مضاعفة أكثر من مايو ،عمل على افراغ الاتفاقية من روحها الأساس وهدم أحد عمدها المهمة: قضية الحريات، بينما تم التمكين للعمود الآخر الذي تقف عليه نيفاشا بصورة جعلتنا ننتهي الى سودانين، بينهما من العدائيات ما صنع الحداد وحالة طواريء معلنة اليوم على لسان رئيس الجمهورية على امتداد ولايات السودان الحدودية مع الجنوب:النيل الأبيض، النيل الأزرق وسنار ما ينذر بحرب شاملة بين البلدين المتحفزين للتخاصم. وقضية السلام في السودان بمعناه المحصور الذي ذكرناه «قبل وقوع الإنقاذ» سجلت حضورا ظاهرا ودائما في دفاتر الانتفاضات والثورات في السودان .فثورة اكتوبر قامت على إثر هامش الحرية الذي أتاحته حكومة عبود لمناقشة المشكلة عبر الندوات التي عقدت في جامعة الخرطوم طلبا لوجهة نظر تسهم في الحل بعد فشل الحلول على أسس أمنية وقد أدى هامش الحرية النسبي الى النفاذ لمناقشة الداء ومسبباته عوضا عن الاكتفاء بالعرض، فعرف الناس نتيجة للنقاش الحر أن مشكلة الجنوب إنما تعقدت بسبب الطريقة التي تمت بها معالجتها من قبل العسكر في عهد الدكتاتورية الأولى وتحويلها من مشكلة مطلبية وقضية هامش وتنمية الى ملف أمني. ومن ذلكم الأثر البين لمسألة الجنوب في اكتوبر كان أهم شعارين أطلقتهما ثورة اكتوبر 1964م ،هما: الديمقراطية والحل السلمي لمشكلة الجنوب. انتفاضة رجب/ابريل 1985 أيضا لم تكن دوافعها بعيدة عن ظلال حرب الجنوب التي توسعت بعد نقض نميري لاتفاقية اديس ابابا، كما قلنا ونتيجة لذلك التوسع في القتال زاد الصرف الأمني ما أرهق الاقتصاد وقل صبر الناس على مايو التي ضيعت السلام واتجهت الى تضييق الحريات التي كانت اتفاقية اديس ابابا قد كفلت هامشا منها، ثم لجأت لتوظيف الاسلام بدون ضوابطه من عدل وحرية على أسس انتهازية محضة لتخدير المشاعر وكمشروع عقابي للتنكيل بالخصوم. كنا في بداية هذا المقال قد قلنا إن عموم المقارنة بين النظم الديمقراطية والنظم الشمولية في السودان فيما يلي طريقة تناول قضية الجنوب ، تنتهي بنا الى الشهادة لصالح الديمقراطيات. ونستطيع هنا التحديد بتركيز أكثر بتعيين فترات زمنية بعينها للمقارنة: فترتي الديمقراطية الثالثة وعهد الانقاذ الحالي لكي نشهد للديمقراطية الثالثة في السودان بالسعي الذي كاد يقطف الثمر بينما لا يغيب عن ذي بصر مدى السوء الذي طال ملف السلام في السودان في عهد الانقاذ. وتنطلق تلكم الشهادة بالنسبة للفترتين، من منطلقين : - تثمين مجهودات السلام في الديمقراطية الثالثة وقد كادت تنجح. - النتائج الكارثية المريعة التي لحقت بهذا الملف حتى طالت الحروب مناطق سودانية كانت آمنة بسبب العقلية المتعنتة، المتآمرة قصيرة النظر التي تعاملت مع قضية السلام وكل القضايا الوطنية في عهد الانقاذ وقد زادت الطين بلة بشنها الحرب في الجنوب على أساس الجهاد ضد الكفار وعلى أسس عنصرية. وفيما يلي نستعرض مجهودات الديمقراطية للسلام : - مجهودات شعبية أدت لاعلان كوكدام بين الأحزاب السياسية السودانية «ما عدا الاتحادي الديمقراطي والجبهة الاسلامية» والحركة الشعبية أثناء الفترة الانتقالية. - اجتماع مع الحركة الشعبية على هامش مؤتمر القمة الافريقية مع رئيس الوزراء سمم مناخ العلاقات بعده اسقاط طائرة ركاب مدنية بعد اسبوعين من الاجتماع - في 16/8/1986م بالقرب من ملكال . وفي الفترة التالية تمت اللقاءات والوساطات الآتية: - ندوة واشنطن في فبراير 1987م حضرها بصفة غير رسمية كل الأطراف.كان قرارها أن مفتاح الحل السلمي يكمن في: الديمقراطية والإعتراف بالتنوع في السودان. - أعقب ذلك توسط السيدين أباسانجو «رئيس جمهورية نيجيريا السابق» وفرانسيس دينق: وجدا من الطرفين استجابة ووجدا فجوة الثقة بين الطرفين ولكن ممكن تجسيرها. - ثم توسط آخرون وساطة أدت لإجتماع في لندن بين وزير الدفاع «فضل الله برمة» ورئيس هيئة الأركان «عبدالعظيم صديق» من جانب، وأروك طن وزميل له من الجانب الآخر في ديسمبر 1987م.هذا الإجتماع ركز على ضرورة إيجاد صيغة مقبولة للتنوع القانوني في السودان. - مؤتمر انتراكشن في هراري في مارس 1988م وقد حضره وفد يمثل جميع أطراف الحكومة والحركة ودار حوار جاد وحاد وكانت التوصية أنه في إطار الديمقراطية والإعتراف بتنوع ثقافات وأعراق السودان يمكن إيجاد صيغة للتعايش بينها. - في يوليو 1988م اجتمع وفد الأحزاب الأفريقية «برئاسة اليابا سرور» والحركة في أديس أبابا وانتهى الإجتماع لضرورة عقد المؤتمر القومي الدستوري قبل آخر ديسمبر1988م. - وفي 16/11/1988م تم إجتماع الميرغني/قرنق بعد أن مهد له اجتماع حزبي من السادة:سيد أحمد الحسين ومحمد توفيق من جانب ولام اكول من الجانب الآخر. أدى اجتماع الميرغني /قرنق لمبادرة السلام السودانية التي بنت على ما تحقق في كوكادام ولكنها تجاوزت ذلك وتوصلت لحل بعض المسائل التي لم يحسمها إعلان كوكادام وهي إتفاقيه أحدثت تطويرا حقيقيا لبرنامج السلام. كانت سياسة حكومة الديمقراطية الثالثة نحو السلام تسير في أربعة محاور هي: المحورالدولي، المحور الإقليمي، المحور الانساني، المحور التفاوضي. ولأن هذا الإتفاق كان معلما بارزا على طريق السلام سعى رئيس الوزراء بحرص على إيجاد صيغة تحقق الإجماع «كانت الجبهة الاسلامية متحفظة على الاتفاق» لكن في 4/1/1989م أمن الجميع على الصيغة المعلنة في 27/12/1988م . - وانتهت الترتيبات لاتفاق على اجتماع يعقد في 4 يوليو 1989م في العاصمة الأثيوبية لمراجعة ما تم بشأن المبادرة وتم الاتفاق أيضا على موعد المؤتمر القومي الدستوري في 18/9/1989م. مثلما أسلفنا بالقول أن المؤتمر القومي الدستوري الذي حدد أجله وتم الاتفاق على أجندته كان سيطوي والى الأبد - إن قدر له أن يقوم ما ظل السودان يعانيه من مشاكل رافقت مسيرته المتعثرة انطلاقا الى آفاق المستقبل الواعد.و لكن.. مثل كابوس مقيت وقعت الانقاذ ولم يكن تاريخ الانقلاب في 30 يونيو 89 صدفة، لأن الدافع الرئيس للانقلاب كان قطع الطريق على السلام في السودان فقد فهم هؤلاء الموتورون أن تحقيق السلام في السودان يعني ضياع المشروع الاسلامي الذي ظلوا يعبئون به قواعدهم ونحن هنا نشكك في نوايا الانقاذيين نحو الاسلام لعدة أسباب منطقية :أولها أن المؤتمر الدستوري كان سيناقش كل هموم الوطن :مسألة الهوية والدين وتوزيع السلطة والثروة والتنمية وقضايا الهامش وكل هم سوداني من الألف الى الياء وثانيا أنهم كجبهة اسلامية وقفوا مؤيدين لشريعة نميري مع علمهم بضرر نسخة نميري الاسلامية على مستقبل المشروع الاسلامي نفسه .ثالثها :أنهم عندما قاموا بالانقلاب بحجة تطبيق الاسلام ظلوا 23 عاما لا يفعلون وعلى مستوى التطبيق انتهكوا كل الحرمات وارتكبوا كل الموبقات وظلوا يكذبون منذ لحظة الانقلاب الأولى حتى آخر رمق في حياتهم السياسية سيكذبون لأنهم كتبوا عند الله كذابين والمؤمن لا يكذب - هكذا أخبرنا الرسول الكريم. إن عدنا بذاكرتنا الى الوراء سنعلم أن اختيار موعد ذلك الانقلاب المشئوم لم يكن اعتباطا: - في 18 مارس 1989 تشكلت حكومة الوحدة الوطنية التي سماها عصام الدين ميرغني في كتابه الموسوم «الجيش السوداني والسياسة» بحكومة «الطريق الى السلام والمؤتمر الدستوري» وتم تكوين غرفة عمليات السلام لادارة الحوار مع الحركة الشعبية في 26 مارس 1989. - وافقت الجمعية التأسيسية بثلثي الأعضاء على تلك المبادرة المصيرية باستثناء أعضاء الجبهة الاسلامية. بعد تلك الخطوات القاصدة نحو السلام بدأ المخطط الآثم لتقويض الديمقراطية وبدأ حشد الغوغاء لما أسموه بثورة المصاحف وأعملت الجبهة الاسلامية آلتها الإعلامية لتنخر مثل السوس تشكيكا في جدوى الديمقراطية ومحاولة جر القوات المسلحة الى قبول خيار الانقلاب العسكري. فإن كان ذلك ايجاز مختصر لخلفية الانقلاب الذي وقع في يونيو 89 فلنا أن نتصور ما يمكن أن يعنيه الملف الذي نناقشه اليوم لنظام بتلك الخلفية وتلك العقلية! فكانت ساحات الفداء والقرود التي تحارب مع المجاهدين وأعراس الشهداء والخ ذلك المسرح العبثي ثم بعد أن مشت الانقاذ في طريق الحرب حتى آخره ورجعت منه بخفي حنين عادت ورضخت كما قلنا للضغوط الدولية و للجلوس للحوار مع الحركة الشعبية على مائدة المفاوضات على أسس ثنائية تقصي أصحاب الشأن من السودانيين الآخرين ولا تعبأ بمصالح الوطن العليا وبالاختصار لا هم لها إلا هموم البائسين الآيسين:نفسي، نفسي..ومن رحم ذلك المشهد المعقد الملطخ ولدت نيفاشا: اتفاقية معيبة كثيرة الخروم فلا نستغرب ما نشهده اليوم من تأزمات بسببها لأن الشيء من معدنه لا يستغرب،إذ كيف يجني وردا من زرع الشوك ! وسلمتم الصحافة