[email protected] الثورة التي دارت عجلتها في السودان الآن لا تحتاج لتمهيد طويل وثورات صغيرة أمامها تتجمع لتصبح ثورة عامة , لأن هناك ثورات عربية سبقتها تختلف كل منها عن الأخرى في بدايتها ونهايتها , فمن الثورات ما كانت سهلة لم يمتد بها الزمن ولم يكثر فيها الضحايا , ومنها ما كان عسيرا استدعى تدخلا دوليا وتسليحا , فقد ظل السودانيون الذين ينخرطون الآن في المظاهرات ويهتفون بسقوط النظام الإسلاموي لعدة شهور يتابعون ما يدور في بلاد الربيع العربي ويقرؤون عن اندلاع الثورات وأسبابها وأسرارها ويعرفون أن أحق الأنظمة التي يجب الثورة عليها وتغييرها هو النظام الإسلاموي في الخرطوم , فإلي جانب ما وفرته تلك الثورات التي كانت أخبارها تصل السودان لحظة بلحظة من أسباب ودوافع كان أقلها الإنسداد السياسي والفرز الواضح للنخبة عن الشعب وتضييع الهيبة السياسية للبلد والحكام والشلل الإداري عن معالجة قضايا اقتصادية رغم الإضرابات ورفع العرائض وتشكيل اللجان نجد أن السودان تفرد بقضايا جديدة تمثلت في العزلة داخل النظام الذي صار مثارا للتندر والنقد بين أقطابه والنقمة الشعبية من نظام لا هو إسلامي ولا هو غير ذلك رغم إدعاء الإسلام والتدين , فهو لا يكذب في سياساته وتعهداته وإنما يكذب أيضا في هويته وفي اسمه , وهو لا يسرق أموال الشعب اللاهث بلا جدوى وحسب وإنما استطاعت جماعة صغيرة منه أن تسرق حزبا بكامله وأن تسرق الحركة الإسلاموية بحذافيرها بعد ان سعى لها العراب المغدور دكتور حسن الترابي سعيها فكونها من عدم وحشد لها الاتباع من كل فج عميق , فقد كان للرجل فراسة البدوي وفطرته , وصبر القط الطويل على الفريسة ولعنته , فكان ينظر للشخص نظرة واحدة بعينيه الصغيرتين فيعرف من تكوينه التشريحي انه دباب من الطراز الأول , وما هي إلا أيام قلائل حتى تجده قد أخذ مكانه مع إخواته ( الكيزان ) في طابور السيخ , وهؤلاء هم الذين يشكلون الآن مجموعات " المجاهدين " الذين تحاول الإنقاذ بمشقة شديدة إخراجهم بديلا لاجهزة الدولة وعناصرها التي لا ضمانة لها ولا ثقة فيها لاخماد المظاهرات في الشوارع ومطاردة المنتفضين في الأزقة , ولكن هذه الجماعات الموبوءة بالجهل والتطرف وعبادة الفرد قد ذهب بعضها غير مأسوف عليه مع المغدور الذي حطمت صورته معاول الحانقين والمغمورين من أمثال الطيب مصطفي صاحب جريدة الإنتباهة وذهب البعض الآخر منبوذا الى هجير ومآسي الشوارع حين وقع الإسلامويون اتفاقية نيفاشا واعلنوا عن مصادرة السلاح والارزاق من ايدي الدبابين الذين لم يصدقوا ولم يقبلوا ما حدث لهم من مصير تعيس , اما الجزء الأكبر والأخطر فقد تخلصت منه الانقاذ في معارك الجنوب وفي حقول الألغام لتكتب لنفسها عمرا جديدا وقوة لا نظير لها ساعدتها في نهاية التسعينات من التخلص من الدكتور حسن الترابي بسهولة ويسر تامين ثم تجرأت عليه كصقر عجوز ورمت به حزينا مكسورا في غياهب السجون , أما ما تبقى من الجهاديين المتعبين من تغيرات الأحوال بين الزعماء المدنيين والعسكريين حيث اختلط عليهم بقر الجنة فهؤلاء قد تقطعت بهم السبل ويحسبون كل صيحة عليهم من أولئك الذين تريد الإنقاذ التهديد بهم ونشرهم في الشوارع في معارك جهادية جديدة في الخرطوم وامدرمان والقضارف والابيض والفاشر وبقية مدن السودان , فحي على الجهاد , التظاهرات امامكم والثورة على قدم وساق . هذا أوان الثورة القديم التي تأجلت للمفاصلة , ثم تأجلت لإتفاقية نيفاشا , ثم تأجلت للإستفتاء , ثم انفصل الجنوب , وكان الانفصال عدائيا وعدوانيا , فكان الإنفصال هو زمن الثورة وسبب الثورة , كان الانفصال إهانة عظمى للشعب السوداني ولطمة سحقت أجيال من أبناء السودانيين ولم تدرك كنه ذلك عصابات الانقاذ لضعف إحساسهم بالكرامة القومية وضحالة شعورهم بالعزة والأنفة الوطنية وعدم انتمائهم التربوي للأمة , ألا يوجد شئ إسمه العزة القومية ؟ لماذا اذن تطلب الدول من بعضها الاعتذار فقط لأن احد الناس مزق أو احرق علمها ؟ أو قتل أحد جنودها عفوا ؟ ولقد كان الأديب العالمي الطيب صالح على حق حينما سأل منزعجا " من أين جاء هؤلاء ؟ " وبذلك لخص فكرهم ووجودهم في السلطة وجرائمهم التي يعرفها القاصي والداني , ولكننا جميعا وغيرنا يعلم من اين جاء هؤلاء والي اين يذهبون ومن سيحل بعدهم في ارض وتاريخ السودان الأبي . الجماعات الإسلامية التي تشارك في الثورة الآن مع جموع الشعب السوداني لا تشارك حبا في الديمقراطية التي ظهرت علاماتها وبرقت مؤشراتها في الافق , فهي قد قضت عليها بالأمس وصادرتها وهي في حجرها , فهي تشارك الآن إما لتصفية حسابات شخصية وإما إعتذارا عمليا وندما للشعب السوداني من هول ما رأوه من إخوانهم في الدين الذين جاءوا بهم للحكم وسلموهم مقاليد الحياة والموت فعاثوا في الارض فسادا وقتلوا النفس المحرمة وارتكبوا المجازر التي يطالب بقصاصها المجتمع الدولي وافقروا الاسر المستورة المتعففة التي لم تعرف رغدا في العيش ولم تطلب علوا في البنيان , وفي كلتا الحالتين فالثورة المجيدة مستمرة ولن يكون نصيب تلك الجماعات في النظام الجديد بآليات الديمقراطية والانتخابات الحرة مثل نصيب الدكتور محمد مرسي في مصر او نصيب راشد الغنوشي في تونس أو نصيب الاسلاميين في ليبيا او سوريا بعد الانتخابات . ما يضمن نجاح الثورة هو المشاركة الجماعية بدون اقصاء , والاتجاه الى العمل السلمي الذي يزيد من اعداد المتظاهرين والانشطة المدنية وفتح الباب لكافة الاعمار للمشاركة من الجنسين ويهيئ الثورة ان تكون متواصلة ومنتشرة كظاهرة ونشاط سياسي عام وكلما زادت الاعداد كلما اخذت الانتفاضة مشروعيتها وسلميتها وانتشرت شعاراتها بالاعتصامات حتى تتحول الى عملية اجتماعية كما حدث للثورة المصرية في ميدان التحرير وبذا تتكون الجماعات والحركات الثورية التي تفيد بعد زوال النظام في الضغط والتوجيه وتجعل الثورة في حالة اشتعال حتى لا تنحرف عن مساراتها كما حدث لثورات السودان السابقة , ويجب علينا الا نتعجل توسع الثورة بعد اندلاعها بل الثورة البطيئة اعمق أثرا في التاريخ الاجتماعي من الثورة الكاسحة السريعة التي يمكن ان تزيل نظاما وتأتي باخر اسوأ من الاول كما أنها لا تخمد بعد ذلك بسهولة كما رأينا في الثورة المصرية التي ضمن اشتعالها ووجود كوادرها سلميتها وفي نفس الوقت انجازاتها وتحول المجتمع نحو الديمقراطية دون قفزات .