لاحظت في السنوات الأخيرة، في كثير من الصحف والمواقع العربية التي تعنى بالثقافة، تردد جملة "الأعلى مبيعا"، أو "الأوسع انتشارا" لكتب بعينها، منها روايات وكتب السياسة وكتب في الفكر وغيره. بعض تلك الكتب معروف بالفعل، طبع وروجع عدة مرات وقرئ نقديا في الصحف، وبعضها بالكاد يعرف أو يعرف مؤلفه. تلك الجمل الترويجية، التي لا تكون صادقة في الغالب في بلاد لا تطبع من الكتاب أكثر من 3000 نسخة في أحسن الأحوال، ولكتاب معينين معروفين منذ زمن، وتكتفي بألف نسخة فقط لمعظم الكتب، جديدة أيضا في الثقافة العربية، مثلها مثل حفلات التوقيع على الكتب في المعارض والقاعات الصغيرة المغلقة، التي كانت حتى عهد قريب غير معروفة أبدا، أو بالأصح غير مفعلة لدينا، ونسمع بها من بعيد، كتقليد غربي عريق، وأصبحت الآن ليست تقليدا فقط، ولكنها طقس روتيني، لا يكاد يخلو منه أي معرض للكتب، حتى لو أقيم في مدرسة ابتدائية. ولأن معظم تلك الحفلات عشوائية ودون تنظيم جيد، وتعتمد على جهود المؤلف وحشده لمعارفه وأصدقائه، الذين يشترون الكتاب ويحصلون على التوقيع، نوعا من الدعم المادي والمعنوي، فلا يمكن أن تعد حتى الآن حفلات ترويجية حقيقية، ينتشر عبرها الكتاب. " حين ينشر في صحيفة أوروبية أو أميركية أن كتابا ما هو الأوسع انتشارا فإن ذلك لا يكتب عبثا أو مجاملة، ولكن بناء على قراءات مكثفة راجعت الكتاب بخبرة " في العام 2008، كتب في الصحف أن رواية لي اسمها "زحف النمل"، صدرت في القاهرة، كانت من أكثر الكتب مبيعا، في معرض القاهرة الدولي للكتاب ذلك العام، واكتشفت أن ما بيع منها لا يتعدى المائة نسخة. وإن صح أنها بهذا العدد المحدود من النسخ كانت من أكثر الكتب مبيعا فهذا يعني أنه بالفعل لا توجد قراءة في الوطن العربي، خاصة للأعمال الأدبية، وما يفعله المؤلفون المنعزلون والمنقطعون للكتابة هو إضاعة للوقت والجهد بلا فائدة، وأن مبدأ طباعة 1000 نسخة من كل كتاب، الذي يعتمده معظم الناشرين، هو رقم مناسب بالفعل، نستحق لعنته عن جدارة. حين ينشر في صحيفة أوروبية أو أميركية أن كتابا ما هو الأوسع انتشارا لهذا الموسم أو من أوسع الكتب انتشارا فإن ذلك لا يكتب عبثا أو مجاملة، ولكن بناء على قراءات مكثفة راجعت الكتاب بخبرة، وشوقت لقراءته، عبر عمل مضن لمحررين أكفاء، لا هم لهم سوى الثقافة، يتقصون في دور النشر ومنافذ البيع، ويطاردون معارض الكتب هنا وهناك قبل أن ينشروا تقاريرهم، وبالتالي يتحملون المسؤولية كاملة، وتقع على عاتقهم جريرة أن يروجوا لكتاب ربما لا يكون كما يراه القارئ، أو ربما لا يكون أعلى مبيعا أو أوسع انتشارا. وإذا قيل إن رواية "قصر الذئب" مثلا لهيلاري مانتل، التي حصلت على جائزة المان بوكر قبل عامين قد باعت ستين ألف نسخة، في يوم إعلان تتويجها بالجائزة فهذا حقيقي بكل تأكيد، ويمكن مشاهدته في الواقع، حين ترى رفوف المكتبات وقد فرغت من نسخ الرواية، وآلاف القراء يتزاحمون على الكاتبة من أجل الحصول على توقيعها. وإذا قيل إن رواية "عداء الطائرة الورقية" للروائي الأفغاني خالد حسيني الذي يعيش في نيويورك قد باعت خمسة ملايين نسخة فهذا أيضا حقيقي، لأن الناشر يؤكده ويعرف تماما أنه يؤكد رقما سيدفع مقابله حقوقا للمؤلف. كذلك توجد في الغرب كثير من البرامج الحيوية التي تهتم بالثقافة، ولها مشاهدوها غير الملولين، مثل "نادي أوبرا للكتاب"، وتأتي تلك البرامج بنقادها وقرائها المبدعين لتسألهم مباشرة، بعيدا عن سطوة المؤلفين والناشرين، ليقرروا ماذا اشتروا في هذا الأسبوع أو هذا الشهر، وماذا قرؤوا، وما الذي أعجبهم، وما الذي لم يعجبهم. " علينا أولا أن نستعيد القارئ الذي كان في عهود سابقة، أو نخترع قارئا جديدا، وناقدا جديدا، وربما يأتي اليوم الذي نحصل فيه على ما أسميه القارئ الداعم " وربما تكون ثمة رواية عادية، لكن في طيها جرح إنساني، تقفز بمبيعاتها لأن قارئا بشعور رهيف بكى وهو يعلق عليها، مثلما حدث في تلك الرواية الأميركية التي تحدثت عن أحد أطفال مرض التوحد وأبكت الناس، أو الرواية الكورية "أرجوك اعتني بأمي"، التي تحدثت عن ضياع أم في إحدى محطات القطار، ورحلة أبنائها االطويلة للبحث عنها، وهم يستعيدون ذكرياتهم معها طيلة الوقت. أقول وبعد سنوات طويلة من متابعة الجو الثقافي في عالمنا العربي، بوصفي كاتبا أو قارئا، إنه لا توجد قراءة صحيحة للحياة الثقافية، ولا مراجعات دورية دقيقة للكتب التي تصدر، إلا ما ندر، وتعتمد الكتب في ترويجها غالبا على المعلومات الشفوية في مقاهي المثقفين، أو حديثا على ما يكتبه البعض في مواقع التواصل الاجتماعي -مثل تويتر- التي تعتمد غالبا على التذوق الشخصي، ولكن ليس على مراجعة دقيقة للكتاب. وفي ذهني رواية "العطر" للألماني باتريك زوسكيند، حين صدرت ترجمتها العربية منذ عدة سنوات، وروج لها شفاهيا بواسطة الذين أعجبتهم، وكنت كلما التقيت شخصا سألني: هل قرأت العطر؟ إذن وقبل أن ندخل في مسألة الأعلى مبيعا والأوسع انتشارا، علينا أن نستورد المنهج الصحيح الذي نستطيع بعد تمثله أن نكتب تلك العبارات، وبناء عليه نستطيع أن نقرر ما الذي يقرأ ولا يقرأ؟ وما إذا كانت تلك الكتب فعلا واسعة الانتشار، أم مجرد دعايات لا تستند إلى أي أساس واقعي. وشخصيا أقرأ هذه الأيام عن أحد كتبي باستمرار بأنه من الأعلى مبيعا والأوسع انتشارا، ولا أستطيع أن أقتنع، لأنني أكاد أعرف عدد النسخ التي طبعت منه، وهي ليست بالعدد الذي يتناسب مع معدل شراء كالذي نشر، لأكثر من شهر، وأعتبر ما يكتب هنا مجرد أخبار عادية لا ترقى لمستوى تتبعها. في النهاية أعود لأكرر ما أردده دائما في كل حوار أو جلسة نقاشية تضم مهتمين بالشأن الثقافي، علينا أولا أن نستعيد القارئ الذي كان في عهود سابقة، أو نخترع قارئا جديدا وناقدا جديدا، وربما يأتي اليوم الذي نحصل فيه على ما أسميه القارئ الداعم، أي القارئ الذي يشتري الكتاب، بمجرد الإعلان عن قرب صدوره، ويجلس متشوقا ذلك الصدور، حتى يقرأ. _______________ روائي وكاتب سوداني المصدر:الجزيرة