د. محمد بدوي مصطفى [email protected] يا له من يوم رهيب عندما أقترب ذلك الرجل المهاب المترهل من فناء القرية. أتى حسب الموعد ويا ليته لم يأتِ! يا لها من لحظة رعب كأنها كابوس فظيع. كان الكل على علم بموعد حضوره، وحينما ظهر لم يكن في الفناء أحد. وقف جاحظا عينيه يتوسّط المكان الذي يتجمع فيه أهل القرية وكأنه في لحظة انتظار وولع. فجأةً، تسللت أشباح تحت أستار الليل، الواحد تلو الآخر؛ تفصح هياكلها عن صبايا ما زلن في سن الطفولة، يمشين إلى مصير عسير ومستقبل مجهول. ها هو قد حان موعد الفراق من دفأ الحياة في العشيرة. ما كانت إلا لحظات إلى أن اجتمع شملهنّ في زحام منتظم ومتناسق. وقفن أمامه بأدب وكأنهن في يوم الحساب. كن ينتظرن اشارة منه تعلن بالانطلاق. تحرك لِيَفِجَهُنَّ بقسوة ليقف أمام ظهر السيارة. وجعل يرفع الواحدة تلو الأخرى كخراف الأضحية. لحظات مضت ولم يبق منهن إلا صوت السيارة وهي تصارع الطريق ورائحة الدخان وسحائب من الأغبرة. ابتعدت السيّارة إلى أن شملتها أثواب الظلام فتوارت عن الأنظار. في الصباح، وبعد أن رفع الليل أستاره عن مخاوف القرية، سمع أحدهم أم جمال تتحدث إلى جارتها أمينة، تقول لها هامسة: "أهل سمعت الخبر؟ جاء بالأمس. وصمتت لكنها استرسلت لتقول بنبرة متزعزعة! أخذ جميع البنات في لمحة عين؛ حمل معه هذه المرّة 35 بنتا. الله يستر!" طفلة يافعة من أسرة مسلمة من نواحي مدينة كرن، بلغت سن الرابعة عشر، دفع الفقر بأسرتها إلى الزج بها إلى إحدى الأسر بمدينة بورتسودان، وكان عمرها حينها يقارب الاثنتي عشر أو أقل. أمضت بدار الأسرة سنتين تعرضت فيها للاستغلال والضرب وشتى ألوان الذل والهوان وللتحرش الجنسي. همست قائلة وكأنها خائفة من أن يسمعها أحد: "كنت أريد أن أواصل المدرسة لكن أسرتي بحاجة ماسة للمال، لذا وهبني أو قل باعني والدي لتجار الصبايا، هكذا نسميهم هناك، الذين أتوا ليلا وحملوني مع بنات أخريات من قبيلتي إلى مكان بعيد لا أعرفه ومن ثم تمّ ترحيلنا إلى داخل السودان ليلا. أعلم أن أبي لم يرد أن يزج بي لمصير كهذا، لكنها الظروف، أجبرتني على حمل هذا العبأ دون أخوتي، من أجل توفير مستلزمات العلاج لوالدتي المريضة، فوالدي لم يعد يقوى على العمل الشاق كما كان يفعل. في اطار مسئوليته الفرد منا، كربّ أسرة أو كربّة أسرة، ونتيجة للضغوط ونزولا على ما تمليه علينا الالتزامات التي تفرضها الحياة، نجتث أو نقتلع طفلة من أحضان أسرتها وجذور محيطها الاجتماعي فنجردها من طفولتها ونعريها من دفأ الحنان في العشيرة لكي نسخرها في بيوتنا كعبدة خادمة ذليلة. لعمري فإن فعل مثل هذا ما هو إلا اشارة صريحة عن ضمائرنا النائمة وبرهان بيّن بأننا قد قتلنا في أنفسنا جزءا لا يستهان به من إنسانيتنا، إن لم تَمُت كليّاً. من منّا ينكر أن ذلك مؤشر لتدني القيم ونتيجة تلقائية لانحطاط السلوك في مجتمعنا السوداني في عصر "انقاذ القيم"؟ فأين الدين وأين القيم التي تدعو للمساواة وللرحمة؟ هل نرضى مصير كهذا لبناتنا وأخواتنا وفلذات أكبادنا؟ بعيدا عن الأهل والأحباب وتحت وطأة الذل والهوان والاستعباد؟ إنها ظاهرة من أهم ظواهر انحطاط السلوك المجتمعي ومن أبرز صور تدنى القيم الأسرية في العقدين الآخرين، لكنها رغم ذلك لم تلق ما يكفي من الاهتمام من أطراف المعنين في البلد، لذا ظلت تفاصيلها غامضة وقراءاتها مستعصية، فالأسر بالأخص في الجارة اثيوبيا تجد نفسها تحت ضغط العامل المادي وضيق العيش بالإضافة إلى تمسك الجهل والأمية بها مما يضطرها لتلقي بطفلتها اليافعة القاصر في مصير تعتقد أنه سيكون الأفضل، ولكن لا يحدث ما يكون في الحسبان. إن مهنة خادمات البيوت هي نموذج لانتهاك حقوق الطفل والإنسان، ذلك في خضم حكايات غريبة ومثيرة، تبتدئ في أغلبها بوساطة عصابات ومافيا تجارة الخادمات، وتنتهي بالاغتصاب والتعذيب والإهانة والحرمان والانحراف السلوكي في مهن تجارة الجسد. فمن الضروري أن تقنن قضية عمل الخدم بالبيوت وفق قانون أو شرع أو سياسة تحمي هذه الشريحة المحرومة وتؤكد على دمجها في الحياة الاجتماعية وجعلها تشعر بإنسانيتها التي سلبت منها منذ صغرها. كما علينا اتخاذ العقوبات الرادعة ضد هذه العصابات التي تتاجر بالبشر. أن قضية تشغيل الخادمات في البيوت ليست مشكلة في حد ذاتها، لكن عندما يجد المجتمع نفسه أمام عدد هائل من الخادمات أعمارهن تقتضي أن يكنَّ في الحضن الدافئ وفي فصول المدارس مع قريناتهن، فهذا مؤشر بالغ السوء على المستوى المتردي الذي يوجد فيه سلم القيم، خاصة عندما يكون المشغل أو المشغلة متعلمين وعلى مستوى من الوعي مرتفع نسبيا. فما دامت هناك أزمة اقتصادية واختلال اجتماعي، فطبيعي أن تولد من رحم ذلك، سموما تغذي الظاهرة، وتجعلها أكثر انتشارا، فالفقر والأمية والتخلف، ثالوث خطير، وبالتالي فالوقوف في وجه هذا الزحف الأعمى للظاهرة، يتطلب الإسراع في تنبيه وتوجيه أرباب الأسرة، ومن جهة أخرى استصدار قانون ينظم تشغيل الخادمات، ويضبط شروطا لذلك، حماية لكرامة هذه الشريحة الاجتماعية، بإقرار قوانين زجرية وتفعيل الفصل الخاص بتحديد الحد الأدنى لسن تشغيل الأطفال. ذاك أفضل من اصدار قوانين تُعنى بالزي المدرسي للأطفال وبفصل الأطفال في سن الابتدائي أو ما شابه ذلك من سفاسف القوانين الغير مجدية. السودان بأكمله تزداد فيه نسبة الكسل والاتكال على الآخرين يوما بعد يوم والأمر ازداد خطورة بعد تفشى ظاهرة الخدم بالبيوت؛ فالكل يتكل بل ويتوكأ على الخادمات الحبشيات ولا أحد دونهن يحرك ساكن: الصغار ينادون "يا ريحانة"، الكبار يصيحون "يا ريحانة"، الضيوف يلهثون "يا ريحانة"، الجيران "يا ريحانة"؛ وريحانة الصغيرة تعمل كالماكوك من صباح الرحمن إلى أن يلقى الليل بعباءته المعتمة على جهلنا وفقر قيمنا. ريحانة تفعل كل هذا من أجل بضع جنيهات يأخذ غالبها المهرب وعصابته. يجد الفرد منا في كل بيوت السودان "العالم كلها نائمة": فمَن مِن صغارنا يذهب للدكان ليحضر بعض من الفول؟ المظهر العام لدكاكين السودان صارت تطغى عليه شيمة العباءات التي يرتدينها الحبشيات من بنات الأرومو المسلمات. من ناحية أخرى تجد أبنائنا أمام التلفاز، من الصباح إلى المساء، المسلسل تلو الآخر، مسلسلات سورية وعندما تنتهي السورية المصرية فالتركية فالأمريكية الخ. وبين مسلسل والآخر السفسفة وسفاسف الأمور وكل من يحضر لزيارتنا يجلس ليمارس فن المشاهدة المستمرة الذي صرنا فيه أبطال العالم، ويا ليت كانت بالألعاب الأولمبية بلندن ميدالية للركلسة والدمار والقعاد، لحزنا عليها بجدارة. في كل صباح تمر أم جمال بفناء القرية فتجد والدة ريحانة المريضة تتوكأ على عصى، يسير بجانبها زوجها الهرم فتسأل: ما هي أخبار ريحانة، هل هي بخير؟ وفي لحظتها تنهمر دموع الأم فتجهش بالبكاء. إذ لم يبق من رائحة ريحانة إلا بقايا ذكريات. فتوسوس الأم في نفسها قائلة: أين أنت يا ابنتي الحبيبة؟ لكن لا يرجع إليها إلا صدى كلامها، من حيث غادرت ريحانة، في تلك الليلة الدهماء.