بروفيسر/ نبيل حامد حسن بشير [email protected] جامعة الجزيرة كلمة عقلية mentality تعرف على أنها القوة أو السعة أو المقدرة العقلية أو الذكاء، أو هى طريقة التفكير وهى التى تحدد كيف نفسر المواقف وكيف نستجيب لها، ويتدخل فى ذلك عوامل كالمعتقدات والأحاسيس والقيم، وينتج عنها تصرف بطريقة معينة. كما تعرف بأنها مجموع المقدرات الذهنية لشخص ما منحت له من تركيبة والديه الوراثية والتفاعلات والتأثيرات البيئية الى وجد بها. يعرفها البعض بأنها المقدرات على التفكير والتعقل والمعقولية واكتساب وتطبيق المعرفة. العقليات أنواع، فهنالك عقلية سياسية ، وعقلية فنية، وعقلية رياضية، وعقلية رياضيات، وعقلية هندسية، وعقلية أدبية، وعقلية بحثية، وعقلية سريعة الحفظ، وغيرها سريعة النسيان، وثالثة تهتم بالأرقام. كما أن هنالك عقليات مرتبة وأخرى فوضوية، عقليات فذة وعقليات جبارة وعقليات ضعيفة، عقليات اجرامية أو خبيثة وعقليات بوليسية..الخ هل توجد عقليات ناجحة وأخرى فاشلة؟ ما هى معايير كل منها؟ أين تقع العقلية السودانية خاصة وأن العديد من المفكرين والساسة سودانيين وأجانب أكثروا من الحديث فى مقالاتهم بالصحف والفضائيات بأن العقلية السودانية عقلية فاشلة. بالتأكيد لا يعنى هؤلاء أن عقلياتنا غبية، والفشل فى هذه الحالة بالتأكيد لايعنى الغباء، لكن قد يعنى عدم المقدرة على الوصول للحلول السليمة أو الناجعة أو المثلى. لكن من يحدد النجاح والفشل؟ بالتأكيد أن هنالك معايير للنجاح والفشل تناسب كل موقف أو مجال. أغلب من تحدثوا عن هذا الأمر من الذين تلقوا تعليما متقدما وفى أكثر الدول تقدما وتفكيرهم ينبع من خلفيات أكاديمية قوية. والسودان واجه لا يزال يواجه العديد من المشاكل صغيرها وكبيرها ، بسيطها ومعقدها. كما أن السودان يزخر بالكفاءات العلمية التى لاتتوفر فى أغلبية الدول الأفريقية والعربية. بل أن الكثير من هذه الكفاءات (العقليات) عملت بهذه الدول وبالمنظمات الأقليمية والدولية وأثبتت كفاءات يضرب بها المثال بين الأفارقة والعرب ولم يجرؤ أحد على أن يقول أنهم يملكون عقليات فاشلة كما أن انجازاتهم تتحدث عنهم. العقلية الناجحة تتميز بمقدرتها على استيعاب المشكلة وتشريحها وتشخيصها ووضع سيناريوهات متعددة للحلول مع اختيار أفضلها. أما الشخصية/ العقلية الفاشلة فليست لها قدرات تشريحية أوتشخيصية أوتحليلية أوعلاجية للمشكلة حتى وان كانت بسيطة جدا. أما التنفيذ فهذا يتطلب نوع آخر من العقليات التى تضع الاستراتيجيات والخطط والمراحل التنفيذية بعد استيعاب كل ماجاء من تحليلات وتشخيصات ووصفات علاجية وتطويع الميزانيات وتوفيرها وادارة العمل والانتهاء منه فى الوقت المحدد له. فالتنظير له عقليات (مثل المهندس الذى يقوم برسم الخارطة) والتنفيذ له عقليات أخرى (المهندس المنفذ أو المقاول). هذا لاينفى وجود ألأشخاص يتميزون بالعقليتين (تنظير وتنفيذ) والخبرات المتراكمة. كما أن هنالك أشخاص يستطيعون ادارة الأشخاص الآخرين الذين يمتلكون أحدى العقليتين أو كلاهما والاستفادة منهم فى تنفيذ ادارة مثلى وانجاز خطط وطموحات هذه الشخصيات من رجال الأعمال الناجحين جدا والحمدلله يوجد عدد مقدر منهم فى السودان. نعود الى السودان والعقلية السودانية والادعاءات بأن العقلية السودانية عقلية فاشلة. ما الذى يجعلهم يدعون مثل هذا الادعاء المهين للأمة ككل وللفرد؟ وماهى أدلتهم وبراهينهم؟ هل السبب هو أننا لازلنا كما يقول العسكريون "محلك سر" منذ الأستقلال حتى اليوم (54عام)؟ هل هو نتيجة مشاكلنا السودانية- السودانية والحروب الأهلية القديمة والجديدة؟ أم نتيجة وضعنا الاقتصادى والاجتماعى المتردى؟ من الممكن أن يكون نتيجة فشل الصناعات (أغلاق 722 مصنع) وانهيار مشروع الجزيرة والمشاريع المروية الأخرى (آخرها بيع بطريقة غير مفهومة لمشروعى الرهد والسوكى لكنانة!!!)؟ هل بسبب تخلف وتدهور مستشفياتنا ومدارسنا وجامعاتنا ومراكز بحوثنا؟ هل بسبب القطوعات الكهربائية والمائية اليومية والتى أصبحنا مدمنين لها؟ أم يعود السبب الى القاذورات والأمراض المنتشرة فى كل مكان دون استثناء بما فى ذلك انعدام الصرف الصحى؟ أم لفشل الحكومات العسكرية الشمولية الثلاث فى حل أبسط المشاكل التى تواجه الوطن والمواطن ، وفشل المواطن نفسه فى فرض رأيه على الحكام الذين أذاقوه الأمرين. قد يفكرون أيضا أن كل الأحزاب السودانية والتجمع الوطنى فشلوا فى" التعاون" فيما بينهم والتنسيق ولو لفترة محدودة تكفى لانقاذ وطنهم الذى يعلمون علم اليقين (ولا يبالون) بأنه مهدد بالتشظى والتشرذم الى دويلات صغيرة يسهل على المستعمر ادارتها والتعامل معها واخضاعها لارادته ولعولمته. قد تكون أكبر أدلتهم أن السودانى المعاصر (ولا أتحدث عن رجال العصر الذهبى) فى الحقيقة غير ديموقراطى ولايقبل الرأى الآخر ولايعجبه مهما كانت درجة قوته أو صحته على كل المستويات وفى كل المناطق والقبائل (شمالا وجنوبا)، يعنى بصراحة كدة" راسه قوى"، وتعود على المعيشة على الحد الأدنى من المتطلبات ورزق اليوم باليوم (عادة الشعوب الرعوية) مع انعدام الطموح، والشعب السودانى فى الأصل شعب رعوى (دى مادايرة ليها غلاط). يقول علماء الحضارات أن الشعوب الرعوية يصعب تطورها بعكس الشعوب الزراعية التى قادت الصناعات والتنمية الاقتصادية فى كل الدول المتقدمة حاليا. كل الدول المتقدمة صناعيا كانت فى الأصل متقدمة زراعيا ولازالت هى ذاتها الدول الأعلى انتاجية زراعية، بما فى ذلك اليابان التى بها أقل مساحة زراعية / فرد فى العالم. السودان يعتبر أول دولة افريقية حصلت على استقلالها بعد ليبيريا، والغريب فى الأمر أن المستعمر البريطانى لم يناكفنا أو حتى يحاول مماطلتنا طويلا كما فعل فى كينيا ويوغندا ومصر والهند وزامبيا وزمبابوى وغيرها من الدول الافريقية وتنازل سريعا وحمل عصاه (كرجل غضب من زوجته وقرر ترك المنزل نهائيا) وخرج لكن بعد أن ادعى بأنه ترك لنا أفضل خدمة مدنية فى العالم. جاءنا الرد قبل عامين أوثلاثة من الأن من البريطانين أنفسهم بأن السودان بلد تصعب المعيشة فيه ولايتحمل هذه المعيشة الا أبناء السودان أنفسهم (سخانة وجفاف وهبايب) وناسه صعبين!! وبعد نقاش مستفيض فى برلمانهم قرروا بالاجماع أن يتوكح السودانيين بسودانهم العاجبهم، يعنى ببساطة كدة " بركة الجات منك يا.......". تسلم الحكم الحكومة الوطنية الأولى برئاسة أعز الرجال الزعيم الخالد اسماعيل الأزهرى وزمرة من خيار السودانيين وكانت نظرتهم لمستقبل السودان واضحة وبرامجهم لتطوره كانت أوضح. لكن نتيجة المكايدات والمؤامرات التى قادتها زمرة ذات (عقليات فاشلة) ويائسة مهدت للعسكر بتسلم الحكم. جاءت حكومة الفريق عبود ومجموعته التى لانشك أبدا فى وطنيتها وأدلت بدلوها وكافحت ونافحت وشيدت وحاربت، وكالعادة لم يعجبنا العجب، كما أخطأ ضعاف العقول من العسكر و الساسة المدنيون شماليون وجنوبيون حاربوها سرا وعلنا مما أدى الى انتفاضة الشعب فى 21 أكتوبر 1964 التى تمرت ذكراها كل عام ولا يذكرها أحد كأنها لم تكن أعظم ثورات الشعوب فى التاريخ الحديث، كما مرت ذكرى ابريل دون أن نذكرها ايضا. من أجهض انتفاضتى أكتوبر وابريل؟ الأجابة أوضح من الشمس. أجهضها ذوى المصالح وضعاف النفوس والعقول. أجهضها من همه نفسه وحزبه على حساب وطنه. جاءت الديموقراطية الثانية، وقبل حلول الانتخابات جاءتنا مايو واستمرت كما يقول الأخوة فى مصر "تقاوح" حتى سقطت نتيجة أفعالها فى أبريل 1985. جاءات الديموقراطية الثالثة ووقعت فى نفس أخطاء الديموقراطية الثانية وابتلعتها المؤامرات والمكايدات بين الأحزاب بما فى ذلك الحركة الشعبية وعدم قدرتها على استيعاب أن ماحدث ليس له علاقة بمايو 2 كما ادعت، و مهد كل ذلك لحكم الجبهة الاسلامية القومية الذى استمر حتى تاريخه وقد يستمر كما جاء على لسان ناطقهم الرسمى الى أن يسلموها للمسيح عيسى بن مريم!!. حتى هذه لم تسلم من المؤامرات بين أعضاء الحزب الواحد وهنا كما يقولون هم "تمايزت الصفوف" الى مؤتمر وطنى وآخر شعبى، ,اصبح شعبنا (الفضل) فى وادى والمؤتمرين فى واد آخر، أما الوطن فلا زال يبحث عن واديه!!! الشريكان لايتفقان على شئ. الاتفاقيات لم يكتمل تنفيذها. الانتخابات حدث بها ما يعرفه الكلو لايستطيع أحد أن يجزمبحياديتها وحريتها ونزاهتها. والآن لا أحد يعرف ماذا سيكون مصير السودان بعد الانتخابات. الاستفتاء كحق جنوبى فقط لايروق لكل الشماليين يهدد ملايين من أبناء الجنوب وأسرهم الذين يعيشون بالشمال، بل هم فى حيرة من أمرهم. نعود لموضوعنا الرئيسى: بعد أن ثبت فشلنا فى كل شئ (أعلاه)، هل هنالك عذر مقبول لهذا الفشل الكلى ؟ الاجابة فى رأيى الشخصى نعم. فالسودان منذ مؤتمر المائدة المستدير والذى تحدد فية أنه سيكون سودانا موحدا ظل يمر بأزمات crisesكثيرة ومتعددة وعويصة. بعضها يفوق قدرات وامكانيات السودان. منها ما غرسه الاستعمار ومنها من صنع أيدينا أو من صنع دول الجوار: مشكلة الجنوب، حلايب، اتفاقية مياه النيل، ترحيل أهالى حلفا الى حلفاالجديدة، الحروب القبلية، عدم الاستقرار السياسى (ديموقراطية – شمولية)، الاتجاه الى المعسكر الشرقى، التخلى عن المعسكر الشرقى، محاولة التقارب مع الغرب، العداء مع أثيوبيا ويوغندا وأحيانا كينيا والكنغو و أريتريا وحاليا مع تشاد ونوع ما (عدم ثقة) مع افريقيا الوسطى. تدنى سعر العملة، تذبذب أسعار البترول، انهيار القطاع الزراعى والقطاع الصناعى..الخ. هذا يتطلب خبراء فى ادارة الأزمات Crises management experts لكن من تولوا السلطة منذ الاستقلال حتى تاريخه ما هم الا وزراء تقليديين لتسيير العمل اليومى، وهذا هو دور وكلاء الوزارات. بمعنى آخر، السودان منذ استقلاله لم يقم باختيار أو تشكيل حكومة تدير الأزمات والسبب الرئيسى هو "عدم اعتراف الحكومات بوجود أزمات" فى المكان الأول. لابد من الاعتراف بوجود مشكلة أولا ثم توضع لها الحلول. عليه نقترح الآتى: أولا: الاعتراف بأن السودان منذ استقلاله يمر بأزمات متتالية فى كل الاتجهات والمناحى والمجالات. ثانيا: الاعتراف بأهمية وجود مختصين بادارة الازمات ثالثا: : تكوين مجلس استشارى لمجلس الرئاسة من المختصين فى مجال ادارة الأزمات. رابعا: على كل الوزارات تحديد الأزمات التى تخصها اعنبارا من وزارة الخارجية ومرورا بوزارة المالية ووزارة الصحة ووزارة الزراعة والتربية والتعليم...الخ انتهاءا بوزارة الحكم المحلى. كل تلك الوزارات لديها أزمات حقيقية لابد من تحديدها والاعتراف بها. خامسا: اختيار متخصصين فى ادارة الأزمات (محليين أو أجانب) لكل وزارة للتشخيص ووضع الحلول الناجعة وتفادى أى أخطاء تقود لأزمات جديدة. سادسا: اختيار وزراء يقدرون أهمية هذا الأمر وخطورته ولهم مقدرة علمية و تنفيذية عالية. سابعا: توفير الأمكانيات والوسائل اللازمة لتنفيذ الحلول. ثامنا: المجلس الاستشارى لمجلس الرئاسة هو المنوط به المراجعة والمتابعة لكل ما يأتى من الوزارات. الخلاصة: نخلص الى أن العقلية السودانية ليست عقلية فاشلة وميؤس منها، لكنها تتطلب وجود من يدير ويستغل هذه العقليات بطريقة صحيحة للحصول على نتائج ايجابية. هل سأل السودانيون أنفسهم لماذا نعتمد دائما كسودانيين فى كل شئ بما فى ذلك أمورنا الشخصية على شيخ القبيلة أو شيخ الطريقة الصوفية؟؟!!! ان اللبيب بالاشارة يفهم.