[email protected] إلحاقاً بالمقال السابق عن الأديب القامة علي المك، نتطوف كذلك بسيرة الراحل أبو داوود،الذي أفرد له علي المك صفحات توثيقية مُحكمة،وشديدة العناية بالتفاصيل، رسم عبرها ملامح أبو داوود الإنسانية، وروحه العامرة بالمحبة والجمال .كما تقفى كذلك مسيرته الإبداعية الجليلة.وهكذا فأن شهرأغسطس لا يكاد يطل دون أن تتغشانا ذكرى ذلك (الصوت الذي هطل سعادة على كل شبر في الوطن، مطرة الفرح الأولى لأرواحنا المكتظة بالأحزان الجافة"، صاحب الوقفة الشامخة في المسارح والناس آذان وعيون)، عبد العزيز أبو داوود كما يصفه خله الوفي علي المك، في سلسلة مقالاته الراتبة عنه، حيث يمضي علي المك ليحدثنا عن ذكرياتهم المشتركة.وهل هناك أقرب أو أعذب من قلم الحكاء المؤنس علي المك، وهو يكتب عن رفيقه و (وطن وجدانه). (رأيته أول مرة واقفاً على الطريق الكبير،شارع الموردة، وحده، يلفت النظر إليه بطوله الفارع،وسواد بشرته النبيل،على أقل تقدير كان أطول إنسان عرفه الصباح في ذلك الشارع!) ونتطوف معه، وحاسة أبو داوود وحساسيته الجمالية الحدسية تجعله يرخي سمعه في مدرسة الخرطوم الابتدائية ليلتقط صوت كرومة، يأتيه من فونوغرافات المقاهي المجاورة. ونتتبع خطواته وهو يسعى على أقدامه لمسافات طوال وحيداً،متقفياً صوت زنقار في ظلام الأزقة المتعرجة، غير مبال بالكلاب تنوشه من هنا وهناك. وهو يبذل بإصرار كثير جهد ووقت حتى يجد من يدله على بيت عمر البنا، ليستأذنه في غناء (نسايم الليل)، بعد أن يتأكد من صحة النص،بل ويجلس طويلاً ليراجع معه سلامة نطقه للكلمات. وقد عرف أبوداوود هكذا بالخلق النبيل والفطرة السليمة،كيف يراعي "الملكية الفكرية" قبل أن تقوم لها منظمة عالمية، وتنص عليها القوانين والأعراف الدولية،فأين من ذلك قراصنة الحقوق اليوم؟! (لتنتشر الأغنية علي حنجرة الذهب،سخية الوقع والإيقاع واللحون) كما تصفها كلمات علي المك. وعلاقة أبو داوود بجمهوره تستحق بالفعل وقفات متأملة ،فقد عرف، بدربة معلم محنك،كيف يغوي جمهوره هوناً على مدارج فن الاستماع وأدب الاصغاء،بالصوت البديع والأداء المجود الرصين،وبالقفشات والمُلح أحياناً،وبالرميات المتوجدة الآسرة، فاتحة الطرب أحياناً أخرى: "الجَّرحُو نوسَرْ بَيْ/ غوَّّرْ في الضَّمير فوق قلبي خلفَ الكَّيْ/ يا ناسْ الله لي" فتنسكب خمرة الطرب المعتقة،فتفيض في دن الأرواح. ليصعد أبو داوود المسرح في كل مرة، فلكأنه فضاء الأوركسترات الموسيقية الفخيمة، بجمهورها المترف الحس والذائقة،لا تكاد تسمع إلا تهدج الأنفاس تستهتن، بصبر نافد فيض عذوبة الصوت الشجي. رحم الله أبو داوود وعلي المك.