اللستك الرابع !! سيد محمود الحاج [email protected] ثلاثتهم كانوا يهزمون غلبهم وهمومهم بإيجاد ما ينسيهم قليلا فيفتعلون الضحك و يتمونه سعالاً كي يبلغ النصاب .. عم مختار الترزي وعم عيسى المكوجي وعم بكري الحلاق .. يجلسون أمام محلاتهم المتواضعة المتجاورة كلٌّ على إطار بال ٍ خلعته عنها سيارات ربما لفظت أنفاسها منذ زمن بعيد .. كانوا يجلسون معظم الوقت فمعظم زبائنهم قد إختفوا إما بفعل الأجل او بفعل المرض او بغيرهما ولم يعد لهم ما يذكر من بين الأجيال الجديدة فلا يعرف عم مختار خياطة المحزّق والمطيّح ولا حتى العلى الله فقد أخفق في اول محاولة مما أثار غضب صاحبها الشاب فرمى بها في عصبية على الأرض وهو يصيح : " دي على الله..دي العوض علي الله !!" كذلك أراح الجينز والشيرتات والفلس أيضا ً مكواة عم عيسى فظلت تنعم بفترات راحة طويلة الأجل..أيضاً فإن نوعية الحلاقة التي يمارسها عم بكري لم تعد تناسب شباب اليوم فهذا يريدها ديكاً وذاك يريدها كابوريا وآخر يريدها لا هذه و لاتلك وليس لعم بكري سابق خبرة ولا طولة بال لكل هذا.. لم يكن العائد الذي يأتيهم يساوي همه لكنه إدمان المهنة الذي لا يقل عن إدمان المخدرات . تعالت قهقهة وعشرقة عم مختار وهو يحاول جاهدا ً التعليق على ما قاله بكري الحلاق :" الله يجازي محنك يابكري.. قلت لي الخريف الما فيه ابوالسعن شنو!.. قلت لي ياكل صُرْفتو و جرادو طير البقر !.. دا مثل جديد.. بالضبط زي البقول البلد الما فيها تمساح يقدل فيها الورل ..والله فعلاً..كلامك في محلو.. هَيْ لاكين ِهي بقت علي الفنانين بس !! أي حاجة في البلد دي بقت محيّرة وما تقدر تفهم أي حاجة.. يشهد الله بقينا زي ديك البُطانة يسوقوا مدلْدَل ويجيبوا مدلدل.. يا حليل البلد البقت حَلة عزّابة..دا يديها كوز ودا يديها كوز وآخر حاجة تفضّل الموية بس .. عضم واحد ما فيها !!.. تأوه ثلاثتهم في آن واحد محدثين عاصفة مستعرة إرتفعت على أثرها حرارة الجو وبلغت معدّلا عالياً وساد الصمت لفترة قبل أن يقطعه الحلاّق وهو يجهد نفسه كي يطفيء ذلك الحريق :" حكاية الورل دي ألذ ّ حاجة".. يضحك فيعشرق ثم ينتصر على العشراقة..ردد كلمة ورل لمرات عديدة محاولا إيجاد صيغة جمعها لكنها كانت أكثر من أن تجمع.."يازول هو الفضل منو غير الورل.. يا حليل أيام زمان والتلوب اللا رقصوا لا نقزوا لا سرقوا !! بالله وزراء الزمن دا الواحد فيهم زي الجنيه المزوّر..لونه باهت وقيمته يَك....يجيبوه الليلة ضب ويمرق بكرة تمساح..زي التقول الوزارة بقت مشروع تسمين !! ويرتفع صوت الترزي مقاطعاً : " هو ياريت لو وقفت علي كدا.. إنت شوف العدد..كم وزير وكم والي وكم معتمد وكم سجم وكم رماد و كم حرامي وراهم !! زمان الحكومة كلها ما بتفوت خمساتشر وزير بالكتير وتسعة محافظين ..يجيبوهم ويودوهم بعربات الحكومةويشهد ربنا واحدين ساكنين بالإيجار ..تعال شوف الحال الليلة كيف..شافع الوزير القدر كدا تلقاه راكب عربية بميات الملايين !! يضحك الآخران في محاولة لكتم الألم الذي يعتصرهما فيواصل الحلاّق :" خليكم من دا كله و ورونى الما فقد قيمتو شنو!! ..الدكاترة بقوا تجار..المدرسين بقوا تجار والمشكلة بضاعة مضروبة وما نافعة.. يا حليل أيام ناس شيخ عبداللطيف الكان الطالب بتاعهم الكمّل سنة رابعة أولية بس ما يقل من بتاع الجامعة اليوم خليك من الدكتور الكان بالسماعة بس يحدد ليك المرض بتاعك شنو !!.. يثني عم مختار على ما قاله صديقه دون قهقهة او عشراقة.. "ياخي زمان نحن الدكتور ذاتو ما شغالين بيه..المساعد الطبي بتاع الشفخانةكان كفاية..والله كان الواحد فيهم ما اقل من الدكتور بتاع العيادة..هسع الدنيا كلها بقت دكتور ..دكتور وبرا فائدة "!! يضحك عم عيسى المكوجي ويتدخل مشاركاً في الحديث هذه المرة :" إنت ود عبدالله ناصر دا شايفو بنادوه يادكتور بس ما شفتو شايل سماعة !!" فيجيبه بكري الحلاق:" لا دا ما دكتور بتاع مستشفى دا عندو دكتوراه في الموسيقى ". تعالت ضحكات عم مختار معلقاً : " دي كمان زمان مافي..كان البلد دي كلها ما سمعنا إلاّ بالدكتور عبدالله الطيب ومعاه إتنين تلاتة.. تعال شوف الليلة البلد كلها دكتور وبروف .. ما باقي إلا نحنا "!! . قبيل عصر ذلك اليوم كان محل المرحوم بشرى المنجّد الملاصق لمحلاتهم قد فتحت أبوابه بعد ان ظل مقفلا منذ وفاة صاحبه قبل أشهر مضت فظنوا ان ثمة مستأجر جديد قد جاء وبناء على هذا الظن قال عم عيسى في صوت أقرب إلى الهمس : " اووووك جاكم لستك رابع ..الظاهر بعد كدا ح ندوّر"!!.. ضحكوا ثلاثتهم وكأنهم لم يضحكوا من قبل وسعلوا وعشرقوا حتى أوشكت أنفاسهم على الإنقطاع وهم لم يدروا ساعتها ان المربوع بأكمله قد أصبح ملكاً لواحد من الجماعة وغدا يسمو برجاً شاهقاً يحجب الهواء عن كل الموتى الأحياء او الأحياء الموتى !!