عثمان ميرغني يكتب: السودان… العودة المنتظرة    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    بعد حريق.. هبوط اضطراري لطائرة ركاب متجهة إلى السعودية    نهضة بركان من صنع نجومية لفلوران!!؟؟    واشنطن تعلن فرض عقوبات على قائدين بالدعم السريع.. من هما؟    د. الشفيع خضر سعيد يكتب: لابد من تفعيل آليات وقف القتال في السودان    نتنياهو يتهم مصر باحتجاز سكان غزة "رهائن" برفضها التعاون    الكشف عن شرط مورينيو للتدريب في السعودية    شاهد بالصورة والفيديو.. في مقطع مؤثر.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تبكي بحرقة وتذرف الدموع حزناً على وفاة صديقها جوان الخطيب    شاهد بالصورة والفيديو.. في مقطع مؤثر.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تبكي بحرقة وتذرف الدموع حزناً على وفاة صديقها جوان الخطيب    بالفيديو.. شاهد أول ظهور لنجم السوشيال ميديا الراحل جوان الخطيب على مواقع التواصل قبل 10 سنوات.. كان من عشاق الفنان أحمد الصادق وظهر وهو يغني بصوت جميل    رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة يلتقي اللجنة العليا للإستنفار والمقاومة الشعبية بولاية الخرطوم    شاهد بالصورة والفيديو.. في أول ظهور لها.. مطربة سودانية صاعدة تغني في أحد "الكافيهات" بالقاهرة وتصرخ أثناء وصلتها الغنائية (وب علي) وساخرون: (أربطوا الحزام قونة جديدة فاكة العرش)    الدفعة الثانية من "رأس الحكمة".. مصر تتسلم 14 مليار دولار    قطر تستضيف بطولة كأس العرب للدورات الثلاثة القادمة    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني في أوروبا يهدي فتاة حسناء فائقة الجمال "وردة" كتب عليها عبارات غزل رومانسية والحسناء تتجاوب معه بلقطة "سيلفي" وساخرون: (الجنقو مسامير الأرض)    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    سعر الدولار في السودان اليوم الأربعاء 14 مايو 2024 .. السوق الموازي    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    صندل: الحرب بين الشعب السوداني الثائر، والمنتفض دوماً، وميليشيات المؤتمر الوطني، وجيش الفلول    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    عالم آثار: التاريخ والعلم لم يثبتا أن الله كلم موسى في سيناء    "بسبب تزايد خطف النساء".. دعوى قضائية لإلغاء ترخيص شركتي "أوبر" و"كريم" في مصر    تقارير تفيد بشجار "قبيح" بين مبابي والخليفي في "حديقة الأمراء"    أموال المريخ متى يفك الحظر عنها؟؟    قطر والقروش مطر.. في ناس أكلو كترت عدس ما أكلو في حياتهم كلها في السودان    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    هل يرد رونالدو صفعة الديربي لميتروفيتش؟    لاعب برشلونة السابق يحتال على ناديه    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    انتخابات تشاد.. صاحب المركز الثاني يطعن على النتائج    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    روضة الحاج: فأنا أحبكَ سيَّدي مذ لم أكُنْ حُبَّاً تخلَّلَ فيَّ كلَّ خليةٍ مذ كنتُ حتى ساعتي يتخلَّلُ!    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    القبض على الخادمة السودانية التي تعدت على الصغيرة أثناء صراخها بالتجمع    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ذاكرة الليل .. ذاكرة النهار
نشر في الراكوبة يوم 04 - 12 - 2012


[email protected]
قال الرجل الثالث: نعم تذكرت أنني كنت أسمر مع آخرين في ضوء القمر، كان هناك شخص يعزف على الربابة ألحانا كانت تبدو لنا كأنها ضفائر من الفضة تتسلق ضوء القمر الى السماء قبل أن يضربها شهاب شيطاني ويعيدها الى الأرض. كنا نشعر بالخسارة والحزن، فقد عرفنا أننا جميعا كنا نشارك في جدل ضفائر الألحان لإرسالها للسماء.وأن قوة معادية لا قبل لنا بها كانت تصد هجوم ألحاننا الحزينة!.
حاولنا وضع حواجز للحماية أمام ألحاننا لتصمد في وجه العواصف المدارية المضادة، والشهب، لكن وضع حواجز أمام الألحان كان يستنزف قوتنا بسرعة، وحين نتوقف لنستجمع أنفاسنا كانت الألحان تبدأ بسرعة مضاعفة بفضل قوة الجاذبية، رحلة عودة معاكسة. في المرة الأولى لم نكن نتوقع مثل تلك العودة الصاروخية حتى إنفجرت سحابة اللحن فوق رؤوسنا فتبعثرنا فوق كثبان الرمال، وإحتجنا وقتا لنستجمع صفوفنا ونستعيد مقدرة إرسال اللحن الى السماء.
وفجأة صرخ شخص ما قائلا: يا لضياعكم! الموت يحيط بالقرية وأنتم تسمرون وتغنون؟
جعلنا صراخ الرجل ننتبه الى أن صاحب الربابة بشعره الطويل المنسدل بين كتفيه وفوق عينه العوراء كان يحمل حزمة أوراق في يده، بينما كانت الربابة في يدي وأصابعي لا تزال تعبث بأوتارها، شعرت لبرهة بالدهشة، لم أستطع أن أفهم علاقتي بتلك الألحان السحرية التي تتسلق ضوء القمر مثل نبتة لبلاب. بدا لي العالم من حولي موحشا وقاحلا بدون ألحان الربابة، حتى القمر بدا لي وحيدا رغم أن ألحان ربابتنا كانت تتسلق الى السماء على أكتاف ضوئه. شعرت لوهلة أنني لا أدري ما الذي يجب أن أقوم به، خاصة مع شعور ساحق بأنني أشارك في مؤامرة ضد السماء. لم يستمر ترددي طويلا، جلست مرة أخرى بجانب الرجل واستأنفنا الغناء على أنغام ربابته، فبدأ العالم يستعيد زمانه مرة أخرى، رغم أن العودة المفاجئة لألحان الربابة، أحدثت إرتباكا في إيقاع الزمن، فغردت طيور مجهولة من حولنا، وعبق الليل فجأة بروائح ساعات خمول الضحى، ورائحة نوار مواسم مختلفة. ثم رأينا الشمس تشرق فجأة في منتصف الليل، لطيفة وباردة، تشبه قمرا آخر، سوى أنها مضت من مشرقها الى مغربها بسرعة شديدة كأن قوى مجهولة كانت تطاردها، رأينا العصافير التي غردت قبل قليل ليوم جديد تطير في كل إتجاه بحثا عن غذاء قبل أن تغرب الشمس، ثم ساد الصمت مرة أخرى لدى غروب الشمس، إستعاد لحن الربابة قوته بعد صدمة التوقف، وإستعاد الزمن من حولنا إيقاعه الطبيعي، وإستعاد القمر سطوة صفائه.
قال الرجل الذي كان واقفا منتظرا أن نتبعه، حين شاهدنا نجدل ضفائر الألحان الطويلة لإرسالها الى السماء:
وماذا تركتم من عمل للشيطان!
لم نهتم بكلامه وواصلنا جدل ضفائر الألحان القمرية وكنا نشعر عقب كل محاولة فاشلة أننا نزداد خبرة وأننا سنكسب في النهاية معركة إرسال الضفيرة الطويلة الى السماء.
لكن فجأة هبت عاصفة شيطانية أفلتت ضفائر اللحن رغم محاولتنا أن نمسك بها بقوة، قبل أن تتبخر في الغبار، وحين إنجلت العاصفة وجدت نفسي هنا!
* * * * * *
كانت أيام العزاء على والدي قد إنقضت، قبل أيام قليلة من وفاته كنت قد تسلمت رسالة قصيرة تفيد بفصلي من وظيفتي كمعلم بمدرسة القرية، لم تذكر الرسالة سببا واضحا للإستغناء عن خدماتي وإكتفت بعبارة الصالح العام. كان القرار متوقعا بعد أن رفضت الإلتحاق بدورة أصبحت إجبارية لكل مستخدمي المؤسسات الحكومية، مع قوات الدفاع الشعبي.
كنت أحاول تأجيل الخطوة الجديدة لأنني لم أكن أعرف تحديدا ما الذي يجب أن أفعل.ولأن فقدان الوظيفة كان يعني للكثيرين التفكير في خيار الهجرة، كانت الفكرة تبدو بالنسبة لي مرعبة، فترة الدراسة قبل سنوات في الخرطوم أقنعتني بأن الحياة في القرية لا يمكن إستبدالها، في المدينة يسابقك الزمن، تركض في كل إتجاه، دون أن تظفر بشئ، فكيف سيكون الحال إن تركت الوطن كله؟ كما أنه لن يمكنني إتخاذ قرار الهجرة لوحدي: هناك والدتي وشقيقتي، وهناك سميرة . كنت أقرأ كتابا لأنطون تشيخوف، وأغرق نفسي في تفاصيل نهارات هديل القمري.
أذهب نهارا لأبق في صحبة عجوز يعيش في مزرعة صغيرة في قلب الصحراء، قريبا من قريتنا. ظلت العودة للعيش فيها حلما كان يراوده طوال عقود حتى إنسربت منه الذاكرة. كان يمت بصلة قرابة لوالدي، وربطت بينهما في فترة الشباب صداقة قوية. ثم باعدت بينهما الأيام بسبب إضطراره للإنتقال إلى المدينة. تعلمت منه أشياء كثيرة أولها كيفية تحديد موقعي في الصحراء عن طريق النجوم وكيف يمكنني تقوية ذاكرتي بقوة الملاحظة التي تتيح لي حفظ أية علامات مميزة لأية مكان أزوره. كما علّمني كيفية التعرف على آثار أقدام الناس وكيفية تمييزها. كان ذلك محور حياته طوال سنوات عمله الطويلة. فقد عمل لعقود مع الشرطة في إقتفاء آثار المجرمين، وبفضل فراسته أمكن حل عدد كبير من جرائم السرقات حتى ان إسمه كان يثير الرعب في قلوب أكثر اللصوص ذكاء، مما جعل عددا كبيرا من اللصوص يتركون المنطقة للعيش في مناطق بعيدة أكثر أمنا. فيما ترك البقية السرقة وإحترفوا اعمالا بسيطة مؤقتة أملا في أن تخلصهم ضربة عزرائيلية من العجوز الذي يتشمم آثار الاقدام على الارض حتى بعد أن تمسحها الرياح، وحين يتأخر الموت، يقول أحد اللصوص التائبين مؤقتا: يا للبؤس حتى الله يكرهه! لا أحد يريده، يوم موته سترتعد عظام الموتى من اللصوص! ثم يتحسر على سنوات عمره التي تضيع في أعمال شريفة اجبارية، أعمال شاقة. يشعر بالشوق للأيام التي كان يمارس فيها اللصوصية بإحتراف وفن، حتى أنه كان يعزف على الربابة أثناء ممارسة عمله، مشيعا بهجة إجبارية في مكان عمله، و ضامنا لمن يقوم بسرقتهم نوما هانئا مع الغطاء الموسيقي، يقول هذه من محاسن شراب الخمور، حين يشرب الانسان يشعر بمتعة إضافية تجعل إستمتاعه بالغناء مضاعفا، كما تجعله كريما قد يشعر بحركة لص ما لكنه يواصل نومه متمنيا للص حظا سعيدا، لا يحتكر الشخص المخمور مباهج الحياة لنفسه، ينثرها على العالم، المشكلة فقط أن أمثاله لا يملكون الكثير وإلا كنا تقاعدنا عن العمل وعشنا على كرم السكارى. حتى الاشخاص الذين يحبون المال والذين في الغالب لا يشربون الخمر إلا إن وجدوا خمرا مجانية. يحدث أن تجد سكيرا سعيدا تسقط منه زجاجة خمر من فرط السعادة أثناء عودته الى البيت وقد امتلأ خزان رأسه وحمل معه زجاجة كإحتياط خوفا من إستعادته للوعي مجرد أن يفاجأ بوجه زوجته الشيطاني حين يعود الى البيت. بعض النساء يعشقن تحويل البهجة الى حزن. خاصة البهجة التي تكلف مالا، يعتقدن أنه يمكن صرفه على أشياء أجدى.
حتى البخلاء حين يسكرون لا يتحولون لكرماء، لكن قوة المخدر تجعهلم يصابون بالصمم فلا يسمعون أصوات من رمت بهم الفاقة أمثالنا للبحث عن رزق في جحر النمل الذي يسميه صاحبه البخيل بيتا. قال لي زميل مرة ونحن نبحث عن شئ يؤكل بعد أن فقدنا الأمل في العثور على شئ يمكن ان نأخذه معنا. لقد أخطأنا الطريق الى بيت درويش زاهد في الحياة فيما يبدو، لكننا لم نجد دليلا على التقوى او المحبة. لم نجد ولا حتى مسبحة او حصير لاداء الصلاة، كل شئ مشيد بطريقة لا تنبئ عن وجود شئ خلفه او بداخله حتى برج الحمام كان مجرد وكر مهجور. جربنا استخدام الصدمة الغنائية التي يمكن أن تحرك حجارة قلب صاحب البيت فتصدر عنه إشارة حب مؤقتة تشي بمكامن الثروة. لكنه لبث صامدا كأنه قد من حجر. خشيت أن يستيقظ على صوت غنائنا ما دام لا يملك قلبا لتفهم إشارته، لكن زميلي طمأنني: حين يجد البخيل خمرا مجانية يسرف في الشراب، ويكون فاقدا للوعي لفترة طويلة، لو أننا حضرنا بنقارة ما تحرك خطوة واحدة. يقتصد في كل شئ حتى في إستخدام أذنيه. ثم لاحظ زميلي بيأس: أمثاله لا يحسنون الوضوء إلا إذا هطلت الامطار!
لم يستعد اللصوص حياتهم السابقة الا بعد أن بدأ العجوز بسبب تقدم السن في الخلط بين آثار الأقدام التي يراها أمامه. وبفضل خرفه واجه بعض الأبرياء تهما بالسرقة. إختلطت كل آثار الأشياء في ذاكرته، فلم يعد قادرا على التمييز بينها. لكن ضوءا توهج في عتمة الذاكرة، فكان يستعيدها مساء. يذرع القرية محاولا إستعادة وهج ذاكرته ومقدراته على إقتفاء الاثر بتنشيط ذاكرته من جديد بإستخدام أعشاب مجهولة كان يعثر عليها أثناء بحثه الدؤوب عن كل شئ. وبإعادة تلقين ذاكرته بتفاصيل العالم بصبر وقسوة. يعيد وضع النجوم بأسمائها في ذاكرته، ويقوم بتثبيت كل نجم في مكانه بواسطة مسامير صغيرة سوداء تشبه المسامير المستخدمة لاصلاح الأحذية القديمة. حتى لا تختلط النجوم في رأسه، فقد لاحظ أنه حين يستطيع التعرف على النجوم يمكنه التحكم في إستعادة أجزاء من ذاكرته تدريجيا.
المشكلة أن إستعادته للذاكرة بدأت بجوانب فضائحية، فحين يستيقظ فجأة في القيلولة على صوت شخص ما يسمر مع أولاده، كان ينادي متسائلا من الزائر، حين يسمع إسمه: عبد الكريم ....، يقول : نعم أعرفه، والدته كانت عاهرة، وكانت تسرق أحيانا لقد تعرفت عليها حين سرقت مرة حذاء نسائيا من متجر في سوق السبت حين خرج صاحبه لأداء الصلاة. يصعق أبنائه ويلوذ الضيف بالفرار أملا في أن يوقف رحيله سيل إنهمار الفضائح.
من معكم؟ ولأن الزائر كان إبنا لمسئول حكومي معروف، يقول أحد أبنائه بعد تردد، معنا صديقنا .....
نعم أعرفه قال، ألم يكن والده يؤمنا قبل سنوات في صلاة الجمعة ثم أصبح مسئولا كبيرا. لا بد إنه الآن يسرق دون خوف بعد أن أصبح رجلا مهما. كان له منظر نبي بالذقن وغرة الصلاة ثم إكتشفت مرة إنه أقدم على سرقة مال من إحدى المؤسسات الخيرية التي كان يملك مفتاحها. لم يكن آنذاك قد أصبح مسئولا كبيرا بعد، كانت ذقنه صغيرة، وكلما تحسنت أحواله كانت ذقنه تكبر حتى شارفت الوصول للأرض. بواسطة بعض النافذين خرج من تلك القضية مثل الشعرة من العجين. في السابق كان اللصوص تتقهقر بهم الاحوال حين يضبطون وقد يضطرون للتوبة او الرحيل، الآن تتحسن أحوالك حين تسرق بل وتصبح مسئولا كبيرا. .ويلوذ إبن المسئول الكبير بالفرار.
من معكم يا أولاد؟ إنه فلان، أعرفه كانت والدته... ويلوذ الجميع بالفرار لأن الاستماع لتخاريفه يوقع الجميع، حتى الأبرياء، تحت طائلة المسئولية..
في المساء حين تمتلئ صفحة السماء بالنجوم، يعيد ترتيبها في ذاكرته، وبعد التمرين الثاني يبدأ في إستعادة وقائع ذاكرته القديمة، يبدو بها سعيدا مثل طفل فرح بإستعادة إحدى لعبه المفقودة. تحكي له أم أولاده عن المشاكل التي يثيرها نهارا، يشعر بالندم قليلا لكنه ينسى كل ذلك في غمار فرحة إستعادة الذاكرة المسائية.
قال إبنه الاكبر، توقف اللصوص عن الرحيل بل عاد من هاجروا منهم، الان بدأ رحيل بعض مسئولي الحكومة الذين راجت فضائحهم النهارية من نزيف ذاكرة قصاص الأثر. ضحك حين سمع بذلك مساء وقال: إكتشفنا إننا أضعنا عمرنا في مطاردة مساكين سرق أكثرهم طموحا نصف جوال قمح. اللصوص الحقيقيون كانوا يدعوننا كذبا للزهد في الدنيا.
الزيارة التالية كانت لرجال الشرطة السرية الذين إحتجزوه لعدة أيام للتحقيق معه. كاد يهلك من الضرب والتجويع، بعد أشهر أطلقوا سراحه بعد أن شارف على الموت. لدى خروجه اتخذ قرارا مسائيا: سيعود الى بيته، لم يفهم أبناؤه في البداية الإشارة وإعتبروها إمتدادا لتخاريفه النهارية، لكن زوجته أوضحت: سيعود الى مزرعته المهجورة في الصحراء.
قبل أن يغريه أحد شذاذ الآفاق بالإستقرار في المدينة كانت الصحراء هي بيته. يتحرك مع قبيلته صيفا وشتاء في رحلات البحث عن الكلأ، وقبل سنوات طويلة حطت القبيلة رحالها في الشتاء في منطقة سهلية تحيط بها كثبان رملية عالية، كانت المنطقة غنية بالحشائش رغم أن أمطار خريف ذلك العام كانت أقل كثيرا من معدلها السنوي، حطت القبيلة رحالها لعدة أشهر حتى أقفرت المنطقة، وحين حزموا متاعهم لمواصلة التجوال بحثا عن الكلأ، أبدى الطاهر رغبته في أن يستقر بالمكان، قال لهم ستجدونني في إنتظاركم حين تعودون في العام القادم. قام ببيع جزء من ثروته الحيوانية ليتمكن من إعمار المكان، بدأ بزراعة أشجار النخيل، وكما توقع نمت الأشجار بسرعة بسبب قرب المياة الجوفية. ثم حفر بئرا وإستعان بخبير قام مع عماله بتعميق البئر حتى تدفقت المياه الجوفية من أعماق الأرض البعيدة، ثم قاموا بتنظيف عين الماء بإستخدام آلة الشادوف، إستغرق العمل وقتا أطول، عن طريق المواسير التي يحركها الشادوف صعودا وهبوطا، كان يتحتم إحداث ثقب في الطبقة الحجرية لضمان تدفق المياه من عين الماء، لأن المياه الجوفية السطحية سرعان ما تنفد، العم الطاهر كان يتركهم كل يوم ويخرج مبكرا للصيد، يستخدم بندقية رمنجتون قديمة، حصل على ترخيصها أيام عمله مع الشرطة، لديه مخبأ جاهز قريب من عين ماء، صنعه من الصخور وبعض فروع أشجار الطرفاء والسنط التي تنمو متفرقة في المنطقة. حين عادت قبيلة البدو مرة أخرى بعد عامين، وجدوه قام بتعمير المكان وكان مشغولا بعمل سور لمزرعته من الصخور وجذوع الأشجار وأغصان السنط الشوكية. في الرحلة الثانية بقي والدي معه لبعض الوقت قبل أن يشتري قطعة أرض قريبة من نهر النيل ويبني بيتا في القرية، ثم تزوج الاثنان من أهل القرية.
إعترض أبنائه في البداية على فكرة عودته للعيش في الصحراء. خوفا من توهانه هناك حين تضعف ذاكرته نهارا. قال إبنه الأكبر:حين تهب العاصفة يفقد حتى أشد الناس مقدرة على تتبع الأثر القدرة على تحديد مكانه. لكنه وبإشارة من يده حسم النقاش حول قراره، قال مشيرا للمدينة النائمة فوق وميض المغيب المتناثر فوق كثبان الرمال حيث يتعالى صخب وصول قطار أو باخرة نيلية، ينسرب ببطء الى ذاكرته، يثير أمواج الحنين فوق بحر لحظة تغييره من ذاكرة النهار الى ذاكرة الليل المتخمة: الصحراء هنا!
إعترف لي في المرة الاولى التي أراه فيها وأستمع لقصته أنه لم يكن يفقد ذاكرته أثناء النهار بل يستعيدها.
أشار لي بالسفر، قال لم يعد لك الكثير هنا، والدك تعب لكي يعلمك وأنت لم ترغب يوما في العمل كمزارع فماذا ستفعل؟
قلت دون تفكير: سأفقد أشياء كثيرة حين أسافر.
كان يعد طعام الغداء، أشار للمغرفة الخشبية التي يستعملها في تحريك عصيدة الدخن على النار وقال: بعض العجين يعلق في المغرفة أثناء التحريك على النار لكنه لا يقلل من العصيدة.
حكى لي قصة رجل كان مفروضا أن يصبح حاكما، لكن عمه إنقلب عليه وحاول قتله ليورّث إبنه الحكم رغم أن العم كان قد تولى الحكم بناء على إتفاق يقوم بموجبه بتوريث إبن شقيقه. هرب الإبن بحياته وسافر جنوبا بالناقة الوحيدة التي إستطاع الحصول عليها من ممتلكات والده، في الطريق توقف لقضاء الليل في مسيد في منطقة على حافة الصحراء قريبة من نهر النيل. كان للرجل الذي يسكن في جوار المسيد ويقوم بخدمة الضيوف العابرين وطلبة القرآن بنت وحيدة تتولى مع والدها خدمة الغرباء. أعجب بها إبن الملك لكن لم يكن بيده شئ لعمله. فواصل سفره جنوبا وحين وجد أنه ابتعد بما يكفي لكي يكون بعيدا عن مؤامرات عمه، قرر أن يستقر ويبحث عن عمل، جرّب كل شئ دون فائدة. حاول العمل بالتجارة فسافر الى مناطق النيل الابيض لجمع الصمغ وشحنه الى سواكن لكن تجارته فشلت، جرب الزراعة المطرية دون جدوى وفي النهاية زار أحد شيوخ الطرق الصوفية فنصحه أن يعود من حيث أتى، قال له، أرى أبقار بلادكم كلها تحلب في فمك.
عاد من رحلته وقبل ان يصل الى قريته تزوج من فتاة المسيد وبقي فترة من الزمان معهم يفلح أرض صهره، ثم سمع بوفاة عمه وأن أهل المنطقة يريدون عودته فعاد ليتوّج ملكا.
لقد كان قدره ألا يجد خيرا في سفره لكنه تعلم منه كثيرا، وعثر على الزوجة الصالحة في أثناء سفره، كما أبعد نفسه عن مؤامرات عمه فنجا بحياته.
فصل من رواية: غناء العشاق الثلاثة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.