بعد رحلة شاقة "بورتسودان.. الدوحة ثم الرباط ونهاية بالخميسات"..بعثة منتخب الشباب تحط رحالها في منتجع ضاية الرومي بالخميسات    على هامش مشاركته في عمومية الفيفا ببانكوك..وفد الاتحاد السوداني ينخرط في اجتماعات متواصلة مع مكاتب الفيفا    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان أحمد محمد عوض يتغزل في الحسناء المصرية العاشقة للفن السوداني (زولتنا وحبيبتنا وبنحبها جداً) وساخرون: (انبراش قدام النور والجمهور)    شاهد بالصورة.. (سالي عثمان) قصة إعلامية ومذيعة سودانية حسناء أهلها من (مروي الباسا) وولدت في الجزيرة ودرست بمصر    بعد حضور والده من المملكة.. جثمان التيك توكر السوداني جوان الخطيب يوارى الثرى بمقابر أكتوبر بالقاهرة ونجوم السوشيال ميديا يناشدون الجميع بحضور مراسم الدفن لمساندة والده    شاهد بالفيديو.. الفنانة رؤى محمد نعيم تعلن فسخ خطوبتها من شيخ الطريقة (ما عندي خطيب ولا مرتبطة بي أي زول)    آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    مناوي: وصلتنا اخبار أكيدة ان قيادة مليشات الدعم السريع قامت بإطلاق استنفار جديد لاجتياح الفاشر ونهبها    مطار دنقلا.. مناشدة عاجلة إلى رئيس مجلس السيادة    يوفنتوس يتوج بكأس إيطاليا للمرة ال15 في تاريخه على حساب أتالانتا    مانشستر يونايتد يهزم نيوكاسل ليعزز آماله في التأهل لبطولة أوروبية    تنويه هام من السفارة السودانية في القاهرة اليوم للمقيمين بمصر    عثمان ميرغني يكتب: السودان… العودة المنتظرة    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    بعد حريق.. هبوط اضطراري لطائرة ركاب متجهة إلى السعودية    نهضة بركان من صنع نجومية لفلوران!!؟؟    د. الشفيع خضر سعيد يكتب: لابد من تفعيل آليات وقف القتال في السودان    واشنطن تعلن فرض عقوبات على قائدين بالدعم السريع.. من هما؟    الكشف عن شرط مورينيو للتدريب في السعودية    رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة يلتقي اللجنة العليا للإستنفار والمقاومة الشعبية بولاية الخرطوم    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    سعر الدولار في السودان اليوم الأربعاء 14 مايو 2024 .. السوق الموازي    رسميا.. كأس العرب في قطر    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    عالم آثار: التاريخ والعلم لم يثبتا أن الله كلم موسى في سيناء    "بسبب تزايد خطف النساء".. دعوى قضائية لإلغاء ترخيص شركتي "أوبر" و"كريم" في مصر    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    هل يرد رونالدو صفعة الديربي لميتروفيتش؟    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    انتخابات تشاد.. صاحب المركز الثاني يطعن على النتائج    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    القبض على الخادمة السودانية التي تعدت على الصغيرة أثناء صراخها بالتجمع    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أطباء السودان الحفاة .. قصة نجاح بهرت العالم


[email protected]
لا شك ان دكتور حسن بلة الامين قد كسب الرهان تماما حين راهن علي كتابه الفريد ( اطباء السودان الحفاة قصة نجاح بهرت العالم ) بقوله : ( اني علي ثقة ان القارئ المثقف بغض النظر عن خلفيته و تخصصه ربما يجد ما يشده في الكتاب ) .
و يمضي في رهانه في فقرة اخري قائلا : ( من شاء ان يقرأ الكتاب تراثا طبيا غير عادي فله ذلك , و من شاء ان يقرأه لإعادة اكتشاف مفاهيم فسيجد بين ثناياه ما يمكن ان يعاد اكتشافه , و من اراد ان يقرأه اساسا لبناء تنموي حضاري فله ذلك , و من شاء ان يقرأه توثيقا و تحقيقا لكونه مشروعا و ليس برنامجا فله ذلك , ومن اراد ان يقرأه لكل ذلك فله ذلك . ان ما كتبته بدأًً لاستنهض به من يؤمنون بقابلية السودان للتطور ) .
و بالفعل – و رغم انني لا اصف نفسي بالقارئ المثقف الا انني قد وجدت في الكتاب ما شدني اليه فقرأته بفصوله العشرين و صفحاته البالغة مائتين ثمانية و خمسون بنفس واحد و وجدت انني بالفعل قد جاءني زمن متعت فيه نفسي بالدهشة علي حد التعبير المدهش للشاعر العظيم عمر الطيب الدوش و وجدتني اوافقه في كل وصف لكتابه بانه اساس لبناء تنموي حضاري و انه بالفعل استنهاض لهمم من يؤمنون بقابلية السودان للتطور و ازيد عليه بانه يصلح اساسا لما نسميه نحن الشيوعيين برنامج الثورة الوطنية الديمقراطية في مجال الصحة و لطالما اشرنا الي ان الممرضين و المعلمين هم رسل الحزب في الريف , و قد اشار الكاتب نفسه الي ان الصحة " قضية اجتماعية سياسية بالدرجة الاولي و ليس قضية تقنيات طبية او تقديم تقنيات لمعالجات حديثة " .
و انطلاقا من تقريره بان الصحة قضية اجتماعية سياسية نجده في اكثر من فقرة خلال كتابه القيم يشير الي ما جرته عشوائيات السياسية من مطبات دخلت فيه بلادنا و كان من الممكن تجنبها بقليل من الحكمة . فلدي حديثه عن المرحوم علي بدري او يوسف بدري و تردده عليهم و استفادته منهم يقول :" و كنت احدث نفسي منذ ذلك العهد ان لو كان هؤلاء الرجال الحكماء هم مرجعية الحكم و القرارات المهمة في السودان لما ادخلنا هؤلاء الجهلاء المسلطون و هو التعبير الذي استخدمه طيب الذكر " عبد الله الطيب " ضمن خطاب ارسله للكاتب في لندن لوصف الحكم العسكري الثاني – لقد ادخلنا الجهلاء المسلطون في دوائر الصراع العربي القذر الكدرة و ادخلنا الجهلاء المسطّلون في دوائر الصراع الافريقي القذر الكدرة – فلاحظ عزيزي القارئ المقابلة بين المسلّطين و المسطٍّلين .
و يعود الكاتب مرة اخري الي ادانة اولئك الساسة و تفريطهم في وحدة السودان فيقول : " ان تصرفات الساسة عبر الخمسين عاما الماضية نالت من هذه الوحدة و لم تؤكدها و لم تحرص عليها و لم تفلح جميع الحكومات التي تعاقبت علي السودان – بدرجات متفاوتة – في ادارة التنوع و جعله ضمانا لوحدة ارضه و شعبه " , و في فقرة اخري يتأسف بقوله :" و لكن مما يؤسف له فان السودان خصوصا في الازمان المتأخرة هان علي اهله و ولات امره فصار بلدا طاردا غير مستقر " .
في هذا الكتاب الذي نحن بصدده يسلط الدكتور حسن بلة الامين الاضواء علي مؤسسة قابلة القرية في السودان حيث انشئت المدرسة الاولي لتدريب القابلات بمدينة أمدرمان في نوفمبر 1920 , و سبق ذلك افتتاح مدرسة المساعدين الطبيين عام 1918 و اضيف انا من عندي انه في نفس ذلك العام 1918 تم تأسيس نادي الخرجين بأمدرمان و اذا كان المستر سامسونج رئيس النادي قد قال لدي افتتاحه بان هذا النادي سوف يلعب دورا مهما في تاريخ السودان فإننا نستطيع ان نقول بالفم المليان و القلم الواثق ان مدرسة القابلات بأمدرمان قد لعبت دورا مهما في تاريخ السودان اللاحق و ان لم تفعل هذه المدرسة أي شيء سوي انقاذ حياة النساء و المواليد لكفاها , حيث كانت النساء قبل ذلك يعانين من الولادات المتعسرة و كانت عملية الولادة مرتبطة بالمضاعفات و الوفاة و كانت الولادة عملية مرعبة بسبب الختان و الممارسات غير الصحية و غير النظيفة للقابلات التقليديات غير المدربات " دايات الحبل " مما جعل جميع حالات الولادة غير طبيعية و غير مأمونة .
و يقول المؤلف انه لم يكتب هذا الكتاب لسد فجوة في ادبيات تدريب القابلات و لكن لاكتشافه ان برنامج تدريب القابلات بالسودان لم يكن برنامجا عاديا اذ احتضن و منذ انشائه قب لأكثر من تسعين عاما اغلب ان لم يكن كل المفاهيم السائدة اليوم و التي توصف " بالحديثة " الرعاية الصحية الاولية .
فقد اهدي المؤلف كتابه الي " ارواح نساء عظيمات صدقن النية فعملن فابدعن فاحيين الانفس . المس وولف و شقتيها جيرترود , الرائدتين المؤسستين الست جندية محمد صالح المعلمة الاولي و الست بتول محمد عيسي الرائدة التي لم تكذب اهلها و ظلت تعطي حتي اخر ايامها و الي الاحياء من الرجال و النساء اصحاب الرؤية الثاقبة و الحس الوطني العظيم الذين يسعون لتعزيز صحة الانسان في السودان و اسعاده .
و اذا كانت انسانية أي كاتب او فيلسوف تقاس بموقفه من المرأة فإننا نجد الدكتور حسن بلة يخصص الفصل الثاني من كتابه للحديث عن عظمة النساء و يستدل علي ذلك بقول طبيبة الاطفال البريطانية الشهيرة " سيسلي وليامز " عن عمل النساء في المهن الطبية " ان النساء يمتلكن حضور البديهة و الصبر و الانضباط و تكامل الشخصية و يظهر كل ذلك في مقدرتهن الفائقة علي الاستماع و التبسيط . الرجال لا يطيقون التكرار و يجدونه مملا و لكن النساء يدركن اهمية القيام بالعمل الذي يحتاج لتكرار و يجدن فيه رضاً و راحة نفسية و مثل هذا العمل لا يمكن الاستغناء عنه في رعاية الصغار و الضعفاء " .
و يصف الدكتور حسن بلة النساء بانهن اكثر التزاما بأخلاقيات المهنة و انهن اقرب للعمل من اجل الاخرين احتسابا و ليس اكتسابا و اكثر التزاما لمجتمعاتهن فهن يفضلن البقاء بقراهن و حول اهلهن و بذلك يلبين شرطا هاما من نجاح الخدمة الصحية الا هي الديمومة و الرعاية المتصلة .
و لقد تمثلت هذه الصفات : صفات الصبر و الانضباط و تكامل الشخصية و القدرة علي الاستماع و التبسيط و الالتزام بأخلاقيات المهنة و العمل من اجل الاخرين احتسابا و ليس اكتسابا اكثر ما تمثلت في اولئك النسوة اللائي اهدي لهن كتابه : مس وولف و شقيقتها جيرترود , الرائدتين المؤسستين الست جندية محمد صالح المعلمة الاولي و الست بتول محمد عيسي , بالإضافة الي م بشائر عباس و احسان عبد الوهاب , و ست السرة و ست عزة و ست الدون و يمكننا ان نضيف اليهم من عطبرة حليمة ماضي و أمونه ماضي و حليمة عزت و ستنا عثمان و آمنة نوري و عائشة احمد و من دامت لها الدنيا التي اسست مهنة الدايات في اليمن .
فمس وولف وصلت الي السودان في نوفمبر 1920 تحمل معها دمياء تستخدمها في التدريب و كانت قبل ذلك رئيسة تمريض في الفيوم بمصر , اتت هذه المرأة لتبدأ من لا شيء - مدرسة أمدرمان لتدريب القابلات – و قد اقامت في بيت من بيوت الطين و كانت وسيلتها للتنقل حمارا مستأجرا او المشي علي رجليها , لم تطلب سكنا فاخرا او سيارة و لو طلبت لما استنكر ذلك عليها لان رصفائها من الانجليز و هم علي مقربة منها كانوا يتمتعون بكل هذه الامتيازات, هكذا يكون نكران الذات و هكذا تكون القيادة الحقيقية تتنزل الي واقع الناس و لا تتعالي عليهم . و برغم معرفتها ببعض الكلمات باللغة العربية بالطريقة المصرية الا انه كان عليها ان تتعلم الدارجة السودانية لكي تلقي قبولا فاستطاعت ان تتمكن منها في وقت وجيز , و يذكر المؤلف انه عند زيارته لها بإنجلترا بعد اكثر من ستين عاما من تقاعدها عن العمل في السودان اندهش حين سمع منها مقولة سودانية خالصة حين انكسر احد اواني القهوة حين اعداداها حيث قالت : ينكسر الشر " و يعلق دكتور حسن بلة قائلا " ان تمكنها لما يمكن ان يسمي قاموس النساء في السودان في ذلك الوقت اكسبها احترام النساء و محبتهن " الي جانب مس وولف كانت هنالك جندية محمد صالح و التي اعتقد انها اسم علي مسمي فهي بالفعل جندية و يصفها المؤلف بانها الاكثر تميزا و انها الرائدة الاولي العظيمة لمهنة التوليد في السودان و كانت احدي متدربات الفصل الثاني في العام 1921 و تصفها مس وولف بانها " الارملة الشابة الجميلة الذكية " و تتحدث عن شخصيتها الفذة المتكاملة و تفانيها في اداء الواجب مما ترك انطباعا جميلا لكل من تعرف عليها , لقد ساعدت كثيرا في نشر مهنتي التوليد و التمريض .
حين اصيبت جندية بسرطان الثدي و تدهورت صحتها كتبت مس وولف ضمن تقريرها السنوي عام 1925 " ان ذهاب الست جندية الذي اقترب سيكون اقصي ضربة للمدرسة انها امرأة ذات شخصية عظيمة و سيكون من الصعب ايجاد البديل لها " .
حين توفيت جندية عام 1936 كتبت مس وولف بعاطفة جياشة :" في ذات يوم اتمني ان توضع لوحة برونزية في مدرسة الدايات في ذكري الست جندية صالح الباشداية الاولي في السودان لوفائها و تفانيها و شجاعتها . لقد توفيت جندية عندما كنت في اجازة مرضية في انجلترا و اخبرتني اختي جيرترود التي رأتها انها و هي ميتة اشبه بالمحارب المجاهد و لعل ذلك افضل ما يمكن ان يكتب علي شاهد قبرها " . عند عودة مس وولف قامت هي و اختها بوضع شاهد علي قبر جندية كتب عليه : " تذكار من سعادة السيدات وولف :- هذا قبر الست جندية صالح يسن , داية متخرجة من مدرسة الدايات مدة خدمتها من 1921 الي 1935 توفيت يوم 19 / 11 / 1936" . و قد قام المؤلف بتصوير شاهد قبرها بمقابر احمد شرفي بأمدرمان . و في لمسة انسانية قامت الاخوات وولف بدفع اجرة البيت الصغير الذي كنت تسكنه جندية و قد قام الدكتور ديفيد مورلي بعمل اللوحة البرونزية التي تمنت مس وولف في مدرسة الدايات بأمدرمان وفاء لذكري الست جندية صالح .
كل ما استرسلت في القراءة في هذا المؤلف القيم عن نماذج النساء اللائي بدأن العمل في تأسيس مدرسة القابلات في أمدرمان تجدني اتذكر النساء الايجابيات الراغبات و القابلات للتطور ضمن روايات الطيب صالح حسنة بت محمود و حواء بت العريبي , و فاطمة بت جبر الدار و نعمة بت محمود التي كان محور حياتها حسب وصف الراوي الشعور بالمسئولية و القيام بتضحية ما , و التي كانت تتمني ان لو اسموها رحمة بدل نعمة .
فبالإضافة الي جندية صالح نطالع سيرة بتول محمد عيسي التي جاءت من رفاعة و لم تترك عملها الا عندما ارتاحت الي الرفيق الأعلى و لم تجن من حطام الدنيا شيئا بل انها علي يقين بان ما قامت به في خدمة الغير كان صدقة جارية فقرصت بذلك كل هذا التفاني في كل المتدربات اذ كانت لهن المثل الأعلى الذي يعتزي به , و قد كتبت مس وولف قائلة : " كانت بتول الداية السودانية الرائدة في تعلم ركوب الدراجة و هي مرتدية ثوبها رغم المعارضة الشديدة لذلك . لقد كانت رغبتها و اصرارها هي المثال الذي مهد الطريق امام الدايات الاخريات لركوب الدراجة , انها بحق امرأة غير عادية في توجهها و نظرتها للحياة " .
لم يؤثر العمر علي اداءها فقد كانت تعمل بلا انقطاع كالنحلة داخل المدرسة و هي فوق الثمانين , لم تتقاعد و لم تخلع مريلتها و ساعتها اعلي ذراعها الايسر حتي قبيل وفاتها انها صاحبة اطول و اروع سجل في عمل التوليد في السودان و في خدمة الناس .
و قد ذكر المؤلف انه حين قدم محاضرة عن الصحة الريفية لأطباء و طبيبات الدراسات العليا بكلية الطب جامعة الملك فيصل بالسعودية و اتي علي ذكر بتول محمد عيسي و ما كانت تقوم به من ادوار ما كان من احدي الطبيبات الا ان وقفت و قالت : " هل بالإمكان ان نرتب زيارة للسودان لنقابل ست بتول و نري ما تفعل ؟ " و ظلت هذه الطبيبة و زميلاتها و زملائها يلاحقونه لترتيب الزيارة التي لم تتم , و في محاضرة اخري قدمها المؤلف في مستشفى اخر قاطعه جراح سوداني قائلا باللغة الانجليزية ما ترجمته :" لقد جعلتني اشعر كما لم اشعر من قبل بالفخر كوني سودانيا " .
لله در اولئك النساء الشامخات اللائي اسسن مدرسة كان من اهدافها حسب ما هو مشار اليه في تقاريرها السنوية تحقيق وجود قابلة او اكثر نظيفة و متنورة و حسنة التدريب في كل قرية من قري السودان و كانت القاعدة التي عمل بها مؤسسو البرنامج " فكِّر كبيرا و ابدأ صغيرا و لكن تحرك الآن " . لقد كان هدفهم الاكبر هو تغطية كل السودان بهذه الخدمة الحيوية الاساسية ثم بدأوا " صغيرا بمدرسة واحدة هي مدرسة الدايات في أمدرمان في العام 1921 و تدرجوا في فتح مدارس الدايات في الاقاليم , و الذي يطّلع علي تاريخ افتتاح المدارس يدرك معني التدرج في التطوير و هنا لا يفوت المؤلف ان يقارن ذلك بالتوسع السريع و العشوائي في المؤسسات التعليمية و التدريبية في ايامنا هذه و ما ترتب عليه من تدني مستوي من يتخرجون من هذه المؤسسات و يقول المؤلف : " علينا ان نتعلم من هذا الدرس العظيم في النجاح عند تخطيط و تنفيذ أي برامج تعليمية او تنموية في بلادنا ان تجئ ضمن خطة مدروسة من اصحاب الرأي و الاختصاص لا من السياسيين الذين تهمهم المشاريع التفاخرية و الانطلاق من ثورة الي ثورة في التعليم يعني فتح عشرات الجامعات مرة واحدة دون ان تكون هناك البني التحتية او الاساتذة المؤهلون فتتحول المدارس الثانوية الي جامعات و المباني المستأجرة الي مؤسسات تعليمية " و اللبيب بالطبع بالإشارة يفهم او بالبلدي كدا " اسمعي يا جارة نقر الحجارة ".
لقد كانت الفقرة اعلاه من هذه المساهمة ضمن الفصل السادس عشر الذي جاء بعنوان " قابلة القرية : كيف تحقق النجاح الذي بهر العالم ؟ "
و بحسب المؤلف فالمتأمل في مسيرة مؤسسة القابلات منذ نشأتها يدرك ان المحافظة علي الجزور الثقافية للمجتمع في التدريب كانت من اسباب نجاح القابلة في عملها , كان لدي المؤسِسات قناعة بان الصدام مع الثقافة المحلية بغض النظر عن سلبياتها سيكون عامل هدم و كانت السياسية المتّبعة الاعتراف بواقع المجتمع و احترام عاداته و تقاليده اياً كانت , و ان كانت هناك سلبيات فالإسلوب الناجح هو التدرج في التعامل معها , و لذلك قضت مس وولف وقتا قبل بدء برنامج التدريب تتعلم اللغة المحلية و تكتشف العادات و التقاليد لكي لا تقع في صدام معها , فعلي سبيل المثال تشجع القابلة و تسمح بالنساء كبيرات السن بدعم النفساء معنويا و نفسيا و تشجيعها حيث كان من المألوف ان يزدحم بيت المرأة النفساء بهؤلاء النسوة يتابعن الام في حالة المخاض خطوة بخطوة و طلقة بطلقة و عندئذ تقول كبراهن للبقية :" لندعو لفلانة و نبدأ بالصلاة علي النبي و من ثم يبدأ الجميع في تكرار الاهزوجة الشهيرة :
يا حلال الحاملا
من غلاما جاهلا
البضيقا و يمهلا
جبريل ناجا ربو و جا
و حلالا الما بدور جزا
يا حلّال حلّها
و يا بلّال بلها
العقّد الامور الأمور هو بحلها
و بالطبع كان في ذلك رفع عظيم لمعنويات المرأة في المخاض و شعور بالأمان و الاطمئنان و ان الامور ستسير علي ما يرام حتي النهاية السعيدة المرجوة و صرخة المولود للحياة . و كانت القابلة تعلّم الام الطريقة الصحيحة لاستحمام الطفل و تشارك الاسرة في رحلة الذهاب الي النهر في المناطق النيلية لغسل وجه و ارجل الوليد تيمنا بماء النيل المبارك .
و لم يكن من السهل استمالة الحوامل لعيادة رعاية الحُمّل عندما بدأت هذه العيادة و هنا تجلّت عبقرية مس وولف و من بعها من الباشدايات السودانيات حين فكروا في استخدام مثل او تشبيه يسهل فهم النساء لأهمية متابعة الحمل فوجدن ضالتهن في الحَلّة فكان منطقهن مع النساء :" اذا كان لديك حلة علي النار هل كنتِ لتتركين الطعام ليحرق و يتلف ام انك تكشفين الحَلة من وقت لآخر لتري حالة الطبخ ؟". لقد كان هذا المثال مقنعا و منطقيا للنساء فجئن لمتابعة الحمل في العيادة التي اقيمت في مدرسة الدايات و من يومها صار كشف الحَلّة مصطلحا معروفا للرعاية اثناء الحمل حتي في المستشفيات . بعد تبني مفهوم كشف الحَلّة جاءت النساء الحوامل بأعداد كبيرة في السنة الاولي 1930 و منذ ذلك الوقت صار كشف الحَلّة شيئا محبوبا لدي النساء .
و واصلت الدايات ابتكار الوسائل للتواصل مع النساء و سوف نواصل البلاغة في الايجاز و الواقعية في النصيحة و علاقة كل ذلك برعاية المرأة اثناء الحمل في نصائح الداية للمرأة الحامل :-
" الداية لازم تفّهم المرأة الحامل بالمَثَل فتخاطبها قائلة : لما دايرة تبني بيت يا قطية جديدة بتجيبي بنّا شاطر و لا بنّا غشيم ؟ لازم اساس البيت يتخته سمح و الشِعبة متينة في شان تسند العرِش و ان كان العرِش ما سمِح المطر بتخسّر البيت , المرة الحامل لازم تشبه البنّا الشاطر في شان هي لازم تخُت اساس الجني سمِح لحدي العرش ان كان دايره صحتها و صحة الجنا تكون شديدة . الاهمال و الكسل في جية الحامل للكشف و لما هي ما بتسمع و لا بيستعمل نصايح الداية ممكن يسبب ضعف يا مرض للام و للجني في البطن , و حتي ان كان الجني يتولد حي و يعيش ممكن طول عمرو صحتو ما تكون شديدة بسبب الام ما ختت اساس سمح " .
و نتيجة لهذه الجهود الجبارة كان من الثمار المبكرة في مؤسسة القابلات ان تمت التغطية العالية بخدمة التوليد و وصولها الي الغالبية العظمي في القري و الاحياء فمنذ اواخر الاربعينيات من القرن المنصرم تمت تغطية اكثر من 60% من السكان بهذه الخدمة الضرورية و انحسرت وفيات الامهات بسبب الحمل و الولادة و انحسرت وفيات الاطفال خصوصا من مرض التيتانوس و اجتازت المؤسسة اختبار الزمن .
بقي ان تعرف ان الباشدايات السودانيات المشرفات علي هذه المدرسة كنّ أميّات لا يعرفن القراءة و الكتابة و هذا ما يؤكّد قابلية السوداني للتطّور الامر الذي نوّه له المؤلف منذ بداية الكتاب .
الفصل التاسع عشر من الكتاب خصصه الكاتب للواقع المُر لمؤسسة القابلات اليوم حيث تحسّر علي مصير مدرسة القابلات بعد ان اصابها ما اصابها من تآكل حيث اهملت مدارس القابلات و لم تنشأ مدارس جديدة بل وصل الحال الي اغلاق بعض المدارس بمبرر ضعف الميزانيات لإجراء اعمال الصيانة و غيره و اهمل التدريب و الاشراف و تناقص عدد القابلات في القري و الارياف و المناطق النائية و نتج عن ذلك ارتفاع غير مسبوق في وفيات الامهات حيث بلغ عدد وفيات الامهات بسبب الحمل و الولادة و فترة النفاس في عام 2009 ذروته و تراجع السودان للخلف ليحتل الصدارة في معدلات وفيات الامهات عالميا حيث وصل المعدل حسب الارقام الموثوقة بين 500 الي 2000 حالة وفاة في كل 100 الف حالة ولادة فهذا اعلي معدل لوفيات الامهات في العالم .
و بالطبع فالحال من بعضو لأن العقلية الطفيلية الشريرة التي دمّرت مدرسة الدايات لتفتح الباب للمستشفيات الخاصة مستشفيات خمسة نجوم عالية التكاليف هي نفس العقلية الطفيلية الشريرة التي دمرت السكة حديد و مشروع الجزيرة و معهد بخت الرضا و مدرسة جبيت الصناعية و تواضع امامهم تأثير الثور في دكان الصيني لأن ذلك الثور المسكين اكتفي بان كسّر الصيني بحيث يمكنك ان تعالجه بصباع امير او خلافه و لكن الثور الذي سلطته الطفيلية علي الصيني لم يكتفي بان يكسِّر الصيني و لكنه بعد ان كسّره انسحك فيه و طحنه طحنا محوّلا اياه الي دقيق و هباء لا يمكن معالجته فقط تتعوض فيه صاحب العوض , و بالفعل هم مجموعة اوباش جاءوا من الغابة لتوهم و ليتها كانت غابة طبيعية و لكنها غابة طبقية جمعت اسوأ ما في المملكتين : الانانية و الحقد الطبقي .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.