رحل الغمام .....ساب البلد الشخصية التي جمعت قلوب الناس ... ووحدت الوجدان السوداني حاتم الجميعابي : رحل الغمام .. ساب البلد، عبارات رددها السودانيون أجمع حينما ودعوا رمزهم الشعبي محمود عبد العزيز وأصحبت مكتوب حتى على خلفيات وسائل المواصلات المختلفة، عكس وبكل جلاء مدى حب هذا الشعب بكافة فئاته وأطيافه لشخصية عاشت من أجل أن تعطي وتزود الوجدان السوداني بأجمل الأغنيات، لم تبخل ذات مرة في أن تثري مكتبة الأغنية السودانية بباقة من الأغنيات التي يرددها أطفال المدارس و ظلت حاضرة في أذهان الناس، تغنى فيها للكبار والصغار، جمع ولم يفرق بين أهل السودان، ذلك الفتى المدلل والمحبوب، وإن جاز لنا التعبير في أن نطلق عليه "معشوق الجماهير" ولكن هل يطابق التعبير الشخصية ؟ كلا ثم كلا. دائماً ما تصبح الكتابة في زمن الحزن في غاية من الصعوبة بما كان، لأنها لا تستطيع أن تعكس قيمة ما يجيش في الخواطر والقلب معاً، فهي عصية إلا على الذين يروضون القلم من أجل إعطاء كل ذي حقٍ حقه، فهذا واجبنا الذي احترفنا من أجله الكتابة، لنكون أحد أدوات التعبير عن ما يجيش في خواطر هذا الشعب، الذي عاش لأجله محمود عبد العزيز، كثيرون تحدثوا عن الصفات التي جمعها الراحل، وكثيرون عبروا بالدموع على هذا الفقد الجلل وكثيرون منعتهم " العبرة" في أن يتحدثوا على فنان الشباب الأول، الذي أجتمع حوله السودان بمختلف مكوناته وثقافاته وأحبه ليس لشئ إلا لأنه أمتلك أدوات التعبير بأسمهم، وصار لسان حال الكثيرين منهم بكل صدق لم يكن متعالياً على أحد، سار في هذا الأرض عاري النفس، متوهجاً همه الأول والأخير إسعاد هذه القاعدة التي أحبها وقدرها وبادلها نفس الحب والتقدير، لأنها وفقت معه في أحلك الظروف . حقاً لم يبخل جمهور " الحوت" على محبوبهم أبداً ووقفوا معه إما مناصرين أو مساندين أو موجهين لمسيرته الفنية التي أعتقد بأنها فيها من الإيجابيات ما يجعلنا نقول بأنه مدرسة غنائية رائدة ساهمت وبكل صدق في تشكيل إضافة نوعية للأغنية السودانية، وقف هذا الجمهور مع محمود ولعله كان يعرف أنه خلف من وراءه ما يجعل سيرته على كل لسان متجرد يذكره بالخير، شخصية حصدت الإعجاب داخل وخارج السودان. قمة العشق التي جسدها جمهوره، حينما أقام عدداً مقدراً من معجبيه جلسات التلاوة تضرعاً للمولى عز وجل بأن يتم الشفاء ليعود محموداً عزيزاً إلى حضن الغناء على خشبات مسرح نادي الضباط والتنس والمسرح القومي، ولكن الله قد أتم أجله، ليذهب جسده وروحه إلى من خلقها، وتفضل سيرته العطرة التي خلفها طوال ال46 عاماً التي عاشها محمود،لنصل إلى الصفحة الأكثر بياضاً وهي حينما أستمع الناس إلى الخبر الحسرة الذي أكد بأن جسد محمود قد غاب عنا وإلى الأبد الكل كان يعيش في حالة هستيرية قد يصفها البعض بالجنون، ولكنها في الواقع هي حنان الأخ الأصغر حينما يفقد أخاه الأكبر وحنان الطفل حينما يفقد أباه، هكذا عبر جمهور محمود عن حبه له، ولعلي كنت من الحاضرين رغم الألم والحسرة التي فجرها فقدنا لمحمود عبد العزيز في ثلاث محطات علها الأخيرة التي ترجلها هذا الفارس الأصيل إبتداء من المطار مروراً بمنزله بالمزاد بحري إنتهاء بمقابر حلة حمد، لم ألاحظ في القريب العاجل كمية الناس التي حرصت على المشاركة في وداعه، شاهدت فيها مختلف فئات الشعب الكادحين وأصحاب الدخول المحدودة حتى أطفال الشوارع كانوا أوفياء لمن أحبهم وقدرهم وكان لسان حالهم والدموع تنهمر منهم حتى إبتلت ملابسهم ولكن هذا لا يساوي شئياً أمام من عرفوه وخبروه وتعلقوا به،هكذا كان المشهد الحزين الأخير، ثلاث محطات يتكامل فيها الحزن الوخيم والتقدير والاحترام من جمهور عشق هذا "الجان" تلك الحنجرة الذهبية التي أمتلكت مواصفات الإبداع الذي حافظ عليه وضحى بنفسه من أجل، هي دائماً قيمة الحياة تكون صغيرة أما التضحيات. لم تحزن الخرطوم فقط بل حزنت أيضاً شقيقتها من لحمها ودمها جوبا التي عشقها أيضاً محمود وصارت محبوبته الأولى والتي تغنى لها وما كان يدري بأن السياسة يوماً ما سوف تجور على المشاعر الأخوية وتفصل اليد من القدم، حمل أمتعته إلى هناك ليؤكد بأن الوجدان السوداني واحد، مثل الجسد وأن الحياة واحدة ليس هناك إختلاف بين ظاهرها وباطنها إلا لمن قست قلوبهم ليغني لجوبا تلك المدينة الساحرة أغنية ظلت راسخة في وجدان الشمال والجنوب " في مدينة جوبا أجمل مدينة طيارة قومي سريع ودينا" ، كما أستطاع أن يؤكد بان الموسيقى والغناء هو من جَسد فعلاً حالة الوحدة في وجدان السودانيين، مؤكداً حالة الفنان المعبر عن وعي هذه الجماهير التي تجاوزت حالات السياسة وتقلباتها، إلى رحاب الموسيقى التي وحدت الشعوب، ناهيك عن من كانوا كتله واحدة، فقد حملته محبوبته الأولى جوبا يوماً ما رسالة فحواها " يلا نغني للفكرة يلا نغني شان بكره"،وحمل الرسالة حتى أجتمع حوله الناس حباً له لفكرته التي طال ما أمن بها. ربما الأقدار وحدتها هي التي جعلت يوم رحيل محمود عبد العزيز هو نفس التوقيت الذي فقد فيه السودان الشخصية الشعبية التي ما زالت ثمثل نموذجاً غنائياً وإنسانياً ومعلماً سودانياً بارزاً في سماء الأغنية السودانية، فقد رحل في 17 يناير 1996م مصطفى سيد أحمد، والذي يربط بين الشخصيتين رغم الإختلاف في الزمان ومكان النشأة وممكنات الإفصاح في كلٍ، يجد بأن الخاسر الوحيد هو جمهورهما، بحسابات الحياة ولكن هي سنة الله في الأرض، ولا نملك إلا أن نسلم بالأقدار لأن الله أعلم بأن يعطي وأعلم بأن يأخذ. وختاماً أعتقد بان ليس هناك شخصية أجتمع عليها حب الناس بالقدر الذي أحب فيه كل السودان " محمود" وأصبح من دون منازع البطل الشعبي الذي لا يفهم ما يسمونه سياسة ولكن يفهم فقط أن الإنتماء إلى هذا الوطن العزيز يتطلب التضحيات الجسام من أجل الشعب ومجموعه، فقد كان قاسياً جداً على نفسه أعطى كل ما يملك من وقته وماله وصحته من أجل أن يبدع في هذا البلد الذي أصبح قاسياً جداً على أبنائه المبدعون. ومع ذلك حرص أن يقاتل حتى الرمق الأخير وهو في فراش الموت. نسال الله العزيز القدير أن يتقبله وان يسكنه فسيح الجنات، وأن يلهنا الصبر وحسن العزاء في هذا المصاب الجلل. وستظل أغنياته وسيرته وحياته ردحاً من الزمان ريثما تأتي السماء بمثله حتى يتربع على قلوب الملايين من الناس. نردد مع قاسم أبو زيد : يصبحوا على حلم راجع ويكتبوا في المدى الشاسع ويحلموا بي وطن واسع لا مسجون ولا محموم لا مغبون ولا مهموم ومهما ضاقت الأحوال أكيد قلم الظلم مكسور