سلام يا كرام: بيني وبين صديقي الأثيري الأثير والكاتب الكبير مصطفى عبد العزيز البطل مجادعات ايميلية متفرقة، سألني في إحداها مؤخراً عن رأيي في مقال صديقي الآخر الدكتور محمد أحمد محمود الذي مجّد فيه ابنتنا الأستاذة نهلة محمود وتصريحاتها عبر القناة البريطانية الرابعة، تلك التي عرفت خلالها نفسها بأنها مسلمة سابقة، وهاجمت فيها الإسلام والشريعة، على حد قوله. وعلق صديقي الأستاذ مصطفى البطل بأنه يرى بأن هذا المقال سيضر بالدكتور محمد محمود ضرراً شديداً. فقد كانت أفكاره من زمان قديم واضحة، ولكنها كانت محصورة في دوائر نخبوية، وحينها ظهرت كطروحات راقية ومحترمة في اطارها الاكاديمي والنخبوي ذاك، ولكن ان ينزل بها الآن إلى الشارع ويمجد ابنتنا الأستاذة نهلة محمود ويشجعها ويصف تصريحاتها بأنها شجاعة، فهذا كلام غير مقبول في هذه الحالة، ويرقى لدرجة المجاهرة بالردة، ويشجع غيره من شباب السودانيين علي الردة عن الاسلام وتحقيره كما فعلت ابنتنا الأستاذة نهلة محمود، فما رأيك؟ وقد أجبته موضحاً رأيي في الرسالة أدناه: سلام مجدد يا أستاذ مصطفى وبعد: فأما فيما يخص حديثك عن أن ما كتبه الدكتور محمد محمود يرقى إلى درجة الردة وتشجيع الشباب عليها، فهو ما لا أؤيدك فيه، وكنت أود أن لا تتحدث بمثله في زمان حرية الفكر الذي نستظل بظله الآن، فحكم الردة من مخلفات عهد الجهاد بالسيف التي قامت عليها الشريعة، وهو ليس أصلاً في الإسلام كما يقول الأستاذ محمود في كتابه الأساسي (الرسالة الثانية من الإسلام): الأصل في الإسلام أن كل انسان حر، الى أن يظهر، عمليا، عجزه عن التزام واجب الحرية، ذلك بأن الحرية حق طبيعي، يقابله واجب واجب الأداء، وهو حسن التصرف في الحرية، فإذا ظهر عجز الحر عن التزام واجب الحرية صودرت حريته، عندئذ، بقانون دستوري، والقانون الدستوري، كما سلفت إلى ذلك الإشارة، هو القانون الذي يوفق بين حاجة الفرد إلى الحرية الفردية المطلقة، وحاجة الجماعة إلى العدالة الاجتماعية الشاملة، وقد قررنا آنفا أن ذلك هو قانون المعاوضة . هذا الأصل هو أصل الأصول، وللوفاء به بدئت الدعوة إلى الإسلام بآيات الاسماح، وذلك في مكة، حيث نزلت (( ادع الى سبيل ربك بالحكمة، والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن، إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله، وهو أعلم بالمهتدين )) وأخواتها، وهن كثيرات، وقد ظل أمر الدعوة على ذلك ثلاث عشرة سنة، نزل أثناءها كثير من القرآن المعجز، وتخرج أثناءها من المدرسة الجديدة، كثير من النماذج الصالحة، من الرجال والنساء والصبيان . وكان المسلمون الأولون يكفون أذاهم عن المشركين، ويحتملون الأذى، ويضحون، في صدق ومروءة، في سبيل نشر الدين، بكل أطايب العيش، لا يضعفون ولا يستكينون .. يبينون بالقول البليغ، وبالنموذج الصادق، واجب الناس، في هذه الحياة، نحو ربهم، بإخلاص عبادته، ونحو بعضهم، بصلة الرحم، وإصلاح ذات البين . والدعوة لحرية الاعتقاد وحرية الفكر أصبحت من ضرورات وسمات زمننا هذا، وبصورة خاصة بعد ثورات الربيع العربي، فبالأمس القريب كتب الأستاذ بابكر فيصل بابكر مقالاً بعنوان: (راشد الغنوشي: في الديموقراطيَّة والعلمانيَّة والرِّدة) جاء فيه: http://www.alrakoba.net/articles-action ... -29558.htm إستضافَ مركز دراسة الإسلام والديموقراطيَّة بتونس الزعيم الإسلامي الشيخ راشد الغنوشي في مُحاضرةٍ بعنوان: (العلمانيّة وعلاقة الدين بالدولة من منظور حركة النهضة) قدَّم فيها رؤىً وأفكاراً حول قضايا الديموقراطيَّة والعلمانيَّة والمُواطنة والرِّدة، وهى رؤىً جديرة بالنظر والمُناقشة سيَّما وأنها تخالف رؤى أطيافٍ عديدة داخل مُعسكر الإسلام السياسي... يؤكُد الشيخ الغنوشي أنَّ "الحُريَّة" ( هي القيمة الأساسية التّي يلجُ بها الإنسان دار الإسلام، فالناطق بالشهادتين يُعبِّر عن قرارٍ إختياريٍ و فردي يقوم عن وعي وبيِّنة. و لذلك فالدولة مُنتسبة للإسلام بقدر ما تحرصُ على أن تتماثل بقيمهِ دون وصايةٍ من مؤسسةٍ دينيةٍ لأنّه ليس هناك مثل هذه المؤسسة في الإسلام بل هناك شعبٌ وأمّة يقرِّران لنفسهما عبر مؤسساتهما ماهو الدين، فأعظم قيمة في الإسلام هي قيمة الحُرّية ؟ ). إنتهى ويمضي الأستاذ بابكر ليخلص إلى القول: وبناءً على ذلك فإنَّ الشيخ الغنوشي – خلافاً لما تقول به العديد من تيارات الإسلام السياسي - يدعو لحُرية "الإعتقاد"، وأن يكون من حق الإنسان دخول الإسلام أو الخروج منهُ بحُريَّة ودون أن يتعرَّض لما يُعرف بعقوبة "الرِّدة" وفي هذا الإطار يقول الشيخ الغنوشي : (ولذلك أنا عارضت كلّ سبيلٍ لإكراهِ الناس على أيّ أمرٍ وطرحتُ موضوعاً شائكاً في بعض المواطن وهو ما يُسمّى بالردّة بمعنى أنّ مُهمّة الدَّولة أنْ تحدّ من حُرّية الناس في الإعتقاد. إذا كان مبدأ لا إكراه في الدين متفقاً عليه فقد دافعتُ عن مبدأ الحرِّية في الإتّجاهين: حُرِّية الولوج في الدين ومغادرته لأنّه لا معنى لتديُّن يقوم على الإكراه، لا حاجة للأمَّة الإسلامية بمنافقٍ يُبطنُ الكفر ويُظهرُ الإيمان و الإسلام لأنّهُ لم يتعزَّز صفّها بإضافة من هذا القبيل ). إنتهى ويواصل الأستاذ بابكر فيقول: في هذا الخصوص يجب أن نشير إلى أنَّ أهل حكومة الإنقاذ الذين يُصنفون داخل مُعسكر الإسلام السياسي ضمن ذات المدرسة الفكرية التي ينتمي إليها الشيخ الغنوشي وجماعتهِ يُطبِّقون حد الرِّدة الذي ورد النص عليه في المادة (126) من القانون الجنائي السوداني لسنة (1991), والتي تنصُّ على الآتي: ( يُعد مُرتكباً جريمة الرِّدة كلَّ مُسلمٍ يُروِّج للخروج من ملة الإسلام أو يُجاهر بالخروج عنها بقولٍ صريحٍ أو بفعلٍ قاطع الدلالة. يُستتابُ من يرتكب جريمة الرِّدة ويُمهلُ مُدة تقررها المحكمة فاذا أصرَّ على ردته ولم يكن حديث عهد بالاسلام يُعاقبُ بالإعدام . تسقط عُقوبة الرِّدة متى عدل المُرتد قبل التنفيذ ). إنتهى النقل من مقال الأستاذ بابكر فيصل بابكر. فكما ترى يا أستاذ مصطفى، حتى كبار دعاة وقادة السلفيين صاروا يدعون إلى تجاوز محاكمات ضمائر الناس ومعتقداتهم بمثل أحكام الردة، وهو ما أحب لك وأتوقع منك أن تكون في طليعتهم لأنك جدير به. هذا قليل من كثير يا أستاذ مصطفى، ولكنه يكفي في هذه السانحة، لأن هذه الرسالة قد طالت، فصارت مقالاً، ثم طالت فأصبحت مقالاً من جزءين، ولا بد لي أن أكفكفها، وأرجو لك، كما أرجو للدكتور محمد محمود ولإبنتنا الأستاذة نهلة محمود، ولكل مهتم بهذا الموضوع، أن تجدوا الوقت لتقصيه بالتفصيل في مظانه. سلام سلام سلام [email protected]