في عام 1991 كتبت قصيدة في رثاء رجل لم تربطني به أية صلة معرفة. رجل مات فحزنتْ عليه أمةٌ بحالها شعرتْ أن موته موتها. كان ذلك هو المرحوم محجوب عبد الحفيظ. استوقفني في محجوب، عليه رحمة الله، أنه رجل من غمار الناس. لم يكن دكتوراً، ولا باشمنهدساً، ولا عقيدا. لكن افتقاره إلى الألقاب لم يقعد به عن أن يكون يداً حانية تمتد إلى المحتاجين في بلدنا وما أكثرهم، في وقت تدفع الألقاب أصحابها إلى أن يمدوا أيديهم ليأخذوا ما بأيدي المحتاجين في بلدنا وما أكثرهم. ظل محجوب، عليه رحمة الله، "ود بلد" و"ود حلة"، رغم النجاح منقطع النظير الذي حققه. في حين تعالى الكثيرون، بلا نجاح، على البلد وعلى أهل البلد. وما أدري ما الذي ذكرني بمحجوب عبد الحفيظ فوراً سماعي نعي محمود عبد العزيز، عليهما رحمة الله. مات محمود، عليه رحمة الله، فحزنتْ عليه أمةٌ بحالها شعرتْ أن موته موتها. ظن كثيرون أن سر حزن الأمة على الحوت أنه كان فريد جيله في الموسيقى والغناء. قد يكون ذلك صحيحاً، ولكن المثل السوادني الدارج "حواء والدة" أيضاً صحيح. إلا إنَّ للحوت سراً غير الغناء. ابحثوا عن ذلك السر في محجوب عبد الحفيظ: رجل صار ملء السمع والبصر، لكنه ظل "ود بلد" و"ود حلة". وابحثوا عن ذلك السر في الشيخ البرعي صاحب الزريبة، عليه رحمة الله: رجل تجاوز الحزن عليه كونه رجل دين ومادحاً للمصطفى عليه أفضل السلام والتسليم. أبحثوا عن سر الحوت، في الحوت، وليس في موسيقاه وأغانيه: رجل صعد وتصدّر، لكه تواضع وما تكَّبر وما تجَّبر؛ رجل ما ازداد صعوداً إلا ازداد تواضعاً؛ رجل كسب كثيراً، لكنه أعطى أكثر، وأكثر؛ رجل حين نجح وأمسك القلم بيده، لم يكتب السعادة لنفسه، بل كتبها للآخرين. ذلك، في رأي، سر الحوت. أما نحن، المقرورين الجائعين، سنظل نبحث عن ذلك المحبوب. سنظل نبحث عن ذلك القوت. في القلوب التي في الصدور. في الحوت وفي غير الحوت وسيمضي العام والعامان والثلاثة، فلا نجده. ثم ييسر الله علينا، بعد طول الانتظار، فنكتشف الصالحين من بيننا بعد وفاتهم: محجوب عبد الحفيظ، والشيخ عبد الرحيم، ومحمود عبد العزيز، وثلة آخرين، عليهم رحمة الله جميعاً. قد يبدو هؤلاء مختلفين في أعمالهم وأفعالهم وأحوالهم. لكن ثمة سر يربط فيما بينهم. سر يقنعهم بأن الآخرين أشد حاجة وأحق. فيؤثرون على أنفسهم، وحين يؤثرون، يشبعهم الله فلا يعودون يحتاجون لشيء ولا لأحد. سر يقنعهم بأن الآخرين أولى، فلا يتعالون على أحد؛ وحين يتواضعون يرفعهم المولى عز وجل في قلوب الخلق. هذه القصيدة في رثاء ذلك المحبوب. نقف اليوم يا محبوب في الحضرة الزكية البهية تحبو إليك قلوبنا تمتد إليك أيادينا الواهنة المعروقة وجوهنا المُغضَّنة المُغبّرة حدّقْ! سوف تعرفنا وابقَ مكانك يا محبوبْ لا تتنزل من عرشكْ نحن سنحبو إليك نلملم أشلاءنا ونترك أشياءنا ونرقى إليكْ يغني صوتنا المبحوحْ معانيَ باسمك المحبوبْ ويغسل دمعنا المسكوب غباراً في مآقينا /// مَرْضى نأتيكَ اليوم ومقعدينْ أجسادُنا معطوبة وروحنا تقعدها "الرطوبة" عاهاتنا قديمة وكلنا نحتاج للبخور و"العزيمة" فاتفُلْ علينا تفلُك الكريم يبرئُ السقيم اليوم يا محبوبْ /// أنت الأجدرُ فينا فأذٍّن فينا تقدَّم إلى سجادة الإمامةْ صلِّ بنا واقرأْ بصوتك المسموعْ فنحن أميون لا نعرف القراءة لكننا نعرف السجودَ والركوعْ //// ادخلْ أيا محبوبْ إن الجداتْ لمسروراتْ لمقدمك اليوم مبكراً ومتعباً وجائعاً ادخلْ لكي يقبلن رأسكْ وأقبلْ ما يقدمن إليك ولا تخجلْ فنحن ها هنا لا نخجلْ أيا المحبوب اليومْ //// ادخل إلى الديوان حيث أجدادك الصالحون والشيوخ والملوك المكوك إن اللحي البيضاء لمشتاقة إليكْ فادخل عليهم توسط مجلسهم واحتسِ القهوة معهم ولا تستحي فنحن ها هنا لا نستحي أيا محبوب اليومْ ///// سيلمح نجمك الركبانْ إن تاهت مقاصدُهمْ فأنت قبابهم تعلو، مناراتٌ مساجدُهم وأنت كتابُهم أبداً يسجل أين مولدهم وقد ينسوا مع الأزمانْ ذاكَ الاسمَ والعنوانْ سيرفعُ صوتُك الآذانْ إن طالتْ مراقدُهم //// لأنك أجمل منا جميعاً وأنصع منا جبينا وأوضح منا علامة وأطهر طهراً وأحسن قولاً وأطول قامة سيذكر النيل العظيم جمالك العظيم جمالك أرضٌ وشعبٌ كريم وقولٌ عتيق وطرسٌ قديم وآخر وحي أتانا وآخر شعرٍ حكيم //// سيذكر النيل العظيم جمالك العظيم فوجهك أخضرُ زرعٍ على شاطئيهْ وأبيضُ رملٍ نديٍّ على ضفتيهْ وآخر دمع ترقرق في مقلتيهْ /// في ثوبنا الجديدْ لا نبكيكْ يا محبوبْ يا جدنا الكبيرْ ولا نرثيكْ لأننا - أطفالك الصغار - نحب ثوبنا الجديدْ ونكره البكاء يوم العيدْ سبتمبر 1991 الريح عبد القادر محمد عثمان [email protected]