كما ذكرنا فى مقالنا السابق (3) أن العلاقات الاجتماعية بين السودانيين تمثل اساس للواقع اليوم و هو يفسر كثير من التعقيدات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التى يعانى منها السودانيين اليوم والتى نجدها فى واقع التاريخ قد انبنت على علاقات عدائية فى معظم الاحيان بسبب الاسترقاق والاستعلاء العرقى والدينى و فى ذلك ساهمت الدولة التركية المصرية التى استعانت بالزبير تاجر الرقيق الشهير لبسط نفوذها فى بحر الغزال فلجأت إلي أقصر الطرق وبدأت التفاوض مع الزبير. فأرسل الحكمدار أحد معاونيه إلي بحر الغزال للتحقيق في أمر ذلك الصراع. فوجد الزبير وتحالف الجلابة يسيطرون على الموقف. ووضح الزبير أن سبب مقاومتهم يعود إلي أسلوب الهلالي ومبادرته بالعدوان. واستعان الزبير أيضا بحسين بك خليفة شيخ قبيلة العبابدة ومدير دنقلا وبربر ليتوسط له لدى الخديوي. وأكد له خضوعه للحكومة وأنه ليس خارجا عليها. وأبدى رغبته في الذهاب إلي مصر لتوضيح موقفه. فأصدر الخديوي عفوا عنه وعينه مديرا لبحر الغزال. وكان ذلك حلا مريحا للطرفين. فقد تصالح الجلابة مع الحكومة، وتمكنت من جانبها أن تمد نفوذها إلي بحر الغزال دون أن تتكبد مشاق عسكرية ومالية. ولكن نفوذ الحكومة كان اسميا تمارسه عن طريق الجلابة وسطوتهم. فلم تنشأ في بحر الغزال حكومة مركزية، ولا انشقت فيها قنوات تساعد على انصهارها مع بقية السودان. وظلت المشكلة التي تواجه الحكومة دوما هي بسط نفوذها الإداري. وبقيت تجارة الرقيق ونظام الرق يتخللان نظامها الاقتصادي الاجتماعي. اما اذا عدنا الى تاريخ الرق اثناء دولة الفونج فأننا سنجد انها كانت دولة استرقاق بامتياز فقد ذكر ود ضيف الله، في الطبقات، أن الشيخ حسن ود حسونة "سعى العبيد وركبهم الخيل وقال بحرس بهم سعيتي. والمتواتر عند الناس خمسماية عبد كل واحد شايل سيف... وكان رقيق الشيخ حسن كثيرا حتى أصبحت له حلال (قرى) ... ثم قال الفقيه عبد الصادق الوقت رمضان قال جاءت ماية وعشرون فرخة لابسات الفرك والدقنس وثياب المنير شايلات قداحة الكسرة وكل واحدة لابسة كما خالصا قدامه سوار فضة ووراءه سوار وكل واحدة تابعاها فرخة في أذنيها فدافيت ولابسة دردبيس شايلة صحنا وكل فرخة وراها فرخة في يدها سوار فضة ولابسة فردة منير شايلة قرعة مغطاة الجميع قعدن في وجهه (ود حسونة)." وكان الشيخ حسن ود حسونة "يفسر كثرة زائريه بقوله: الناس بتجي تتفرج في فروخي وفرخاتي. ويحكى عنه أنه عندما تزوجت أخته فاطمة من رجل من قبيلة الشكرية أهداها الشيخ أربع فرخات ليخدمنها عندما راحت مع زوجها إلى ديار الشكرية .. وأن الشيخ عندما حضرته الوفاة أوصى لخمسة فقرا بثلث ماله، فنال كل منهم ستة وثلاثين رأسا من رقيق خدمة ورقيق المهام الإدارية." (ود ضيف الله، الطبقات، 49-50) وهكذا كانت هى حياة كل اهل الطرق الصوفية والشيوخ الذين كانوا يعيشون حياة الترف و التنعم بالجوارى والفروخ و الذين كانت لاتأتى فى مخيلتهم انهم يمارسون استرقاق اخوتهم السودانيين بل فان الامر كان ينظر اليه من الناحية الدينية حيث انه من المعلوم أن الاسلام لم يأمر بمنع الاسترقاق والاستعباد حتى اكتمال الرسالة المحمدية وذلك لطبيعة المجتمع العربى الذى ظل ولايزال ينظر الى مسألة الاستعباد والاسترقاق على انها جزء طبيعى من الحياة ولا ينطوى عليه اى سلوك انسانى مخل وعليه يأتى السؤال البديهى وهو من اين كان يجلب هولاء الشيوخ والملوك عبيدهم؟؟؟ ان الحقيقة التاريخية الماثلة تتمثل فى أنه كان للسلطان وحده الحق في إدارة ورعاية حملات الرقيق السنوية في مناطق جبال النوبة والنيل الأبيض وجنوب الفونج. وبعد نهاية الحملة، يستحوذ السلطان على نصف مجموعات الرقيق التي تم الحصول عليها، أما النصف الباقي فيقسم على المشاركين في الحملة وقد كان اكبر اسواق النخاسة هو سوق سنار فقد ذكر وصف كرمب سوق النخاسة في سنار بأنه سوق يباع فيه، الذكور والإناث، من كل الأعمار كما تباع الأبقار... ويساق كل يوم منهم مائتان أو ثلاثمائة للنخاسة... أما الجواري، فإن التجار الأتراك، بمقتضى شرعهم، يقضون منهن وطرهم وشهواتهم ثم يبيعوهن في بلدان أخرى مثل مصر والهند... وتظل الصبايا دون سن الثانية عشر عرايا كما ولدتهن أمهاتهن، وتستر الجزء الأسفل من جسد الكبريات وعوراتهن خرق بالية... وخلال صفقة المبايعة يقول الشاري للبائع: أعرض علي هذا الرقيق. ثم يبدأ دونما حياء أو خجل في معاينة السلعة كما يعاين الأبقار. فيفحص الفم والأسنان وكل أجزاء الجسد. فإذا اقتنع بمفاضلة السعر، بعد تبادل يفتح الله ويستر الله، تتم المبايعة. ويستقر سعر الصبي البالغ خمسة عشر عاما على ثلاثين فلورن وربما أربعين إن كان ذا بنية قويمة. وتباع الجارية في سن مماثل بخمسين أو ستين فلورن إن كانت ذات لون فاتح، وبثمانين فلورن إن كانت من الأثيوبيات. وفي مصر يرتفع السعر، فيباع الصبي أعلاه بستين أو ثمانين أو ربما مائة قلدر. وتباع الجارية إذا كانت وسيمة بمائة قلدر. وقد كان الرقيق يواجهون مشقة بالغة عند نقله من بلد إلى آخر، وقد وصف كرمب مشوار قافة الرقيق المتجهة إلى مصر من دولة الفونج كالآتي: بدأ المشوار خلال أغسطس 1702 حيث تنطفئ قليلا قائظة الصيف لهطول الأمطار وفصل الخريف: يساق الرقيق موثوقا ومصفدا إلى بعضه بسلاسل ثقال مثل الكلاب. يسيرون خلف الجمال تشدهم إليها طوال الرحلة سلاسل أو حبال. ويسير آخرون ورقابهم موثقة إلى عمدان خشبية طول الواحد منها عشرة أقدام تقريبا، وسمكه في حجم الساعد وتلتف رقائق سيور من جلد الجمال حول العنق توثقه للعمود فتحول دون إفلات الرأس من الوثاق. وتوثق اليدان إلى العمود بحلقة حديدية، ويوصل العمود بالجمل بسلاسل، فيضطر التعساء للسير خلف الجمال وهي تعلو التلال وتهبط الوديان عبر الآجام والغابات والشوك والأعشاب، إن أسرعت خطاها أو أبطأت، توقفت أم واصلت سيرها، يتبعونها حفاة، حاسرة رؤوسهم لا تغطي أجسادهم سوى خرقة تستر العورة بالكاد في هجير الشمس اللاهبة، وخطر الموت عطشاً وجوعا. أما في الليل فيشد وثاقهم دون رحمة. وإذا ما أصيب الرقيق بمرض في الطريق، فإنهم يلقون به موثقاً على ظهر الجمل، كما يحمل القصاب لحم العجل الذبيح على سرج زاملته، وإذا تدهورت حاله تركوه في الصحراء بين الحياة أو الموت ومن الضرورى أن نذكر وجود الخصيان ضمن الرقيق الآخرين، من الذكور والإناث، الذين يقومون بخدمة زوجات وسراري ومحظيات السلطان واللائي يقدر عددهن ب 600. ولكنه لم يذكر عددهم بالضبط ولا الطريقة التي يتم بها الخصاء. إلا أنه يبدو أن طريقة الخصاء لا تختلف كثيرا، إن اختلفت، عن تلك التي تجرى في دولة الفور المعاصرة لدولة الفونج والدولتان إسلاميتان. وقد صف الترمانيني طريقتين للخصي متعارف عليهما في الممالك الإسلامية، وهما، الجب: وهو قطع الخصيتين والقضيب، والوجر: وهو قطع الخصيتين وترك القضيب. وقد أورد التونسي معلومات مسهبة عن الخصيان في رقيق دارفور، ويقدر عددهم ب 1000 رأس. ويقول التونسي: "وأصل الخصيان الذين في دارفور من بلد ورنجة، يخصونهم هناك ثم يأتون بهم إلى دارفور على سبيل الهدية. ولكنهم كثيرون جدا، منهم من يخصى في دارفور... وكنت قد سألت أهل الخبرة في كيفية الخصي فأخبرني بعضهم أنه يؤتي بمن يراد الفعل به، فيضبط ضبطا جيدا، وتمسك المذاكير وتستأصل بموسى حادة ويوضع في مجرى البول أنبوبة صغيرة من صفيح لئلا ينسد، ويكون قد سخن السمن على النار تسخينا جيدا حتى غلى، ثم يكوى به محل القطع، وبعد أن كان قطع جرحا حديدياً، ينقلب جرحا ناريا. ثم يداوى بالتفتيك عليه والأربطة حتى يشفى أو يموت، ولا يشفى منه إلى القليل. وكذلك نجد ان دولة الفور، هي الأخرى، دولة عبودية بامتياز، مثلها مثل دولة الفونج حيث تمتد جذور الرق فيها إلى مملكة الكيرا التي كانت قائمة على هضاب ومنحدرات جبل مرة ومملكة التنجر شمالا ومملكة الداجو جنوبا قبل أن تجمع السلطنة شملها. وكانت أعراق الفور يسترق بعضها بعضا في ممالكها تلك ولكنها بعد استقرار السلطنة استرقت مجتمعة السلالات الأفريقية الأخرى المجاورة لها جنوبا وشرقا وغرباً. وقد كانت الأعراف التي حكمت الاسترقاق من الغزو أو الأسر أو الاختطاف أو الأتاوة أو المقايضة سابقة لقانون دالي السابق للشريعة الإسلامية التي تبنتها السلطة في عهد سليمان سولونج 1640م وكانت الغزوات هي أهم وسيلة لجلب الرقيق في سلطنة الفور. كنشاطا اقتصاديا تمارسه جماعات عدة من قمة الهرم الإجتماعي إلى قاعدته. بعض هذه الجماعات يملك حق الإذن التصديق، الترخيص والبعض يمول والبعض يخطط وينظم ويقود والبعض الآخر ينفذ. وتقتسم هذه الجماعات عائدات الغزوات من الرقيق فيما بينها بنسب يحددها العرف والقانون. ويذكر أوفاهي، أن الرقيق كان صادر السلطنة الرئيسي. وكان القبض عليهم هو العمل المميز للصفوة في دورة التجارة. وشكلت غارة الرقيق (والتي كانت تسمى غزوة أو سلاطية "حربة") الفرق بين الفور والفرتيت، بين المسلم وغير المسلم، وبين القوة العسكرية والدراية السياسية من جانب، ومن الجانب الآخر، المجتمعات عديمة الزعامة التي كانت ضحية للنخاسين. وهكذا نجد أن العلاقات الاجتماعية بين السودانيين كانت مبنية على هذا الاساس الغير سوى والذى لا يتم تناوله او ذكره من خلال التاريخ السودانى الرسمى ومن قبل اجهزة الاعلام الرسمى والذى نرى ضرورة فى معرفة الناس به حت نخرج من حالة الطوباوية واليوتيبيا الاجتماعية الت نتحذث عنه فى مجتمعنا السودانى والتى من خلالها نستطيع ان نفسر التشوه البائن فى العلاقات بين السودانيين والتى تتمثل كما ذكرنا فى وجود مُسيطر ومُسيطر عليه على كافة الاصعدة أ فالحقيقة الواضحة أن انحصار مصادر الرقيق في المناطق التي تسكنها القبائل الزنجية أدى إلي تعميق الفارق بين الشمال والجنوب، حتى أصبحت كلمة رقيق أو عبد تعني أفراد تلك القبائل سواء وقعوا في أسر الرق أو لم يقعوا. وازداد إحساس القبائل في الشمال بالتفوق العرقي وغذته قدرات الجلابة الاقتصادية، فاتخذت المديريات الجنوبية مسارا مختلفا أثر في تطورها، وتعمقت الغربة بين الشمال وباقى السودان. على أن تجارة الرقيق بنقلها مجموعات من القبائل الزنجية إلي الشمال واستخدامهم في رقيق الخدمة المنزلية أو في الجندية، قد أدت إلي بداية اختلاط القبائل في الجنوب مع القبائل الشمالية عن طريق الزواج (التسري) من نساء من قبائل الجنوب. فظهر جيل زنجي خالص في الشمال أو خليط وأصبح يشكل واحدا من أركان التركيب الاجتماعي. ولكن قيام التركيب الاجتماعي على خلفيات الرق، لم يساعد على عملية الانصهار وهنا نتسأل ببرأة لماذا انحصرت تجارة الرقيق بين القبائل الزنجية وأصبحت أفريقيا والمناطق الاستوائية منها بالذات مصدر الرقيق الأساسي بالنسبة لشمال أفريقيا والشرق الأوسط وكانت أمريكا من قبل، بينما مؤسسة الرق وتجارته عرفتها مجتمعات أخرى غير أفريقيا؟ فقد انحصرت تلك التجارة في العناصر الزنجية منذ عهد الجاهلية. فنسمع عن أحابيش مكة، وهم جيش أرستقراطية قريش المؤلف من رقيقهم المجلوب من أفريقيا. وهناك حديث نبوي يقول (خير سبيكم النوبة). واشتملت معاهدة (البقط) التي أبرمت بين المسلمين والنوبة عام 652م على إرسال رقيق إلي مصر. وتطور الأمر حتى أصبحت كلمة عبد أو رقيق موازية لزنجي(*)، وهو تطور خطير ألقى بظلال سوداء على علاقة الشعوب السودانية وامتد بشكل أكثر كثافة على السودان في مجرى تاريخه الحديث... وعليه لانستغرب ان كان البشير يرى فى مسألة اعتداء قواته ومليشياته على نساء دارفور واغتصابهن شرف لاهل دارفور مابعده شرف حيث لاتزال ممارسات الرق و ثقافته موجودة فى وعى ولاوعى المجتمعات الاسلاموعربية فى السودان وخصوصا مجتمعات الشمال النيلى من النوبة المستعربة (شوايقة ، جعليين، ميرفاب....الخ). ونواصل [email protected]