سمع صوت النقارة عاليا فهب من مرقده ووقف من خلف النافذة الخشبية في منزله الذي يطل علي ميدان الخوريستجلي، فوجد الصادق ود الصايح مثل الجهادية رابطا وسطه بعمامته القصيرة و اضعا طاقيته في جيبه يضرب بكل ما اوتي من قوة في جلد النقارة المشدود بالصهد كما يبدو من صوتها الواضح العالي،صوتها الذي تأتيك ذبذباته كالنصال في طبل اذنيك . لا بد ان عائدا آب للقرية بعد غياب طويل .من هو؟ الهادي الذي غادر لبولندا ليدرس الطب منذ امد بعيد وتحول لدراسة المجتمع الاشتراكي وعاد قبل سنين عددا بالبدلة السوداء والكرفتة الحمراء وبعض حكايات عن شي غيفارا وبابلو نيرودا وآخرين لا نعلمهم وكان ينادي الفكي ابراهيم زيات طلمبة المشروع بانه رفيق من الطبقة العاملة دون ان يفهم او يرد عليه؟ ام صالح الذي ترك وطنه الصغير لجنوب السودان بحثا عن المال فتزوج هناك بمهر البقر ورطن وسكن ؟ ام ان فطينة بت الجلابي ذات البطن الضخم انجبت توأم اولاد بعد ان كادت (تيأس)؟ هل اكل النيل رصيفه و فاض متجها نحو بيوت القرية الجالوص؟ ام ان ابا الضو الذي تكركر روحه في صدره منذ عدة ايام قد سلم الفارغ وذهب بعد ان صرف كل ما ادخر من مال علي العلاج و اخذ معه كلية احد ابنائه وسعة صدر اسرته؟ صوت النقارة يثقب اذني ويشيع حالة الخطر والتوتر في البلد و كل هذه الاحتمالات و غيرها تساوت وبدا لي منظر اهل القرية من شباكي العالي كانهم خارجين من جحور نحو الميدان الصغير قرب المجري المتجه للنهر وكمثل مسيرة كانت تهتف(مصير نميري مصير الشاه) في زمن ما وتفرقت كما تجمعت تحت وقع الهراوات دون ان يتساوي المصيران الا بعد حين. خرجت ذاك اليوم في الصباح الباكر الي مزرعة الخضروات قريبا من القرية و هي مزرعة صغيرة لا تتعدي الفدادين الخمس ازرع فيها البصل كمحصول رئيسي و بعض الخضروات الموسمية مثل البامية و الجرجير و العجور و غيرها و قضيت يومي كله انظف واشتل واسقي وعدت مكدودا بعد ان غاب نصف قرص الشمس في الافق فاذا بود الصايح (يدي النفارة عصا) غير ابه بان اغلب سكان القرية مزارعون لم يتناولوا وجبة الغداء بعد و لو ان خبره كان شؤما لجاع كل رجال القرية الا من خطف الوجبة و رشف الشاي رشف من كان لسانه ملبسا . نهق حماره بصوت عال اعاده لوعيه وصدرت جلبة حول ود الصايح استبان من ضجيجها ان حسن كهرباء ضرب (ود الماسك ) في راسه و ادخله في غيبوبة ربما لا يصحو منها ابدا . عندئذ شعر بالراحة و حمد الله انه لم يغادر منزله و اغلق نافذته و عاد بذكرياته مع ود الماسك صاحب الدكان العابس الذي لم يسلفه ملوة بلح و كيس حلاوة في ولادة زوجته الصغيرة و لم يرد عليه بكلمة طيبة. نادي علي الطعام و نثر فيه شطة القبانيت. اكل بنهم وهو يتأوه وشرب الشاي وهو ينفث (اه يادنيا لكل اول آخر) وحضن طفله الصغير بيد و المذياع باليد الاخري و نام نوما هنيئا علي انغام نقارة ود الصايح. محمد عبدالرحيم مصطفي [email protected]