نسمات الخريف في الصباح الباكر كانت اول ما استقبلنا بعد ان حطت بنا الطائرة في مطار جوبا. المطار هو ذات المبنى الصغير المكون من صالة صغيرة تضيق بكثافة المغادرين والقادمين لعاصمة دولة جنوب السودان الفتية، الى درجة يصعب معها ان تصطاد مقعدا للانتظار.. ولأول وهلة يفك لك المطار القديم شفرة توقف عائدات نفط الجنوب، وماذا يعنى التقشف. جوبا كانت تتجمل لاستقبال الرئيس البشير. الشوارع التي ستشهد موكبه أنهك العمال في النظافة والطلاء، وعندما سألت ماذا يحدث، أجابني أحدهم بلكنة استوائية (قالوا بكرة راجل كبير جاي هنا). المدينة هي ذاتها التي رأيتها قبل ثلاث سنوات خلون. العمران شهد تغييرا طفيفا، وظهرت بعض الفنادق الصغيرة هنا وهناك. لكن المشاريع الكبرى وخطط البنية التحتية ضربتها لعنات الصراع مع الشمال وانسداد شريان النفط عن خزائن حكومة الجنوب، فتعثرت التنمية بعض الشئ، وارتفعت أسعار السلع حتى كأنك تظن انك في جنيف. فكلفة فاتورة الطعام باهظة، أما الإقامة في الفنادق فهي معاناة اخرى لا يعلمها الا اهل البأس والتجربة.* المطاعم الصغيرة الموغلة في الشعبية تبيع (طلب الفول المصري) بعشرة جنيهات، اما المقاصف التي بها قدر ضئيل من الحداثة فتبيع طبق الفول بعشرين جنيهاً، فيما يبلغ سعر جالون البنزين ثلاثين جنيها غير منقوصة، وغاز الطبخ من نوادر السلع، وقد تحتاج إلى مائة وخمسين جنيها لتضج أسطوانة الغاز خاصتك بالحياة، وهي سلعة برجوازية في ذلكم البلد كثيف الأشجار والغابات. السؤال عن قيمة المعلبات والدواء في جوبا يدل على أن السائل فائق الرفاهية، فهي تماثل ضعف الأسعار في الخرطوم. لكن ثمة ملاحظة مهمة هي ان الدولار في جوبا سهل المنال، وسعره في السوق السوداء لا يتجاوز ال3.85، وهذه دلالة على ان الاقتصاد سهل التعافي عند هطول اولى زخات النفط، على خلاف قيمة الدولار في الخرطوم المتنامي في الاشتعال والذي يتعدى سعره ستة جنيهات. مواطنو يوغندا وكينيا ودول القرن الأفريقي يسيطرون على سوق العمالة في المدينة، فهم منتشرون في الشركات والفنادق والمحال التجارية. المدينة لم تعرف بعد شبكات المياه والكهرباء مما يضاعف الحاجة للنفط لبث الروح في مولدات الكهرباء.. رقعة الطرق المرصوفة توسعت بصورة لافتة للعيان. وجوبا لمن لم يرها مدينة يانعة بالخضرة وثمار المانجو الصفراء وأشجارها الباذخة تجدها أينما وقع بصرك وسط طبيعة خلابة ومناخ يميل للاعتدال. اهل الشمال ما زالوا هناك، تجدهم تجار ا ومستثمرين ومهنيين لا يشكون تضييقا اجتماعيا، فأنت في شوارع جوبا لا تشعر انك غريب. فالمواطن يعاملك بذات الحميمية القديمة، و"عربي جوبا" هي لغة التواصل بين سكان المدينة.. تجدها في الشوارع والمتاجر وحتى في تلفزيون جنوب السودان.. وكذلك هي لغة الغناء والدراما التلفزيونية لأنها هي اللسان المشترك لغالب السكان الذين يتكلمون بلغات ولهجات قبلية متباينة. اختلاف الدين لا يفسد للود قضية في جوبا. فالمساجد يعلو أذانها، والكنائس تقرع أجراسها، والأمر يسير بيسر وسلاسة. النساء هناك بسيطات *تغلب عليهن سمات الريف، والأمن مستتب نهارا، ولكن الأصدقاء يحذرون من التجوال ليلا في المدينة التي تتثاءب مبكرا فالظلام هناك دامس والشوارع تفتقر للإضاءة التجوال ليلا مما قد يجلب لمحبي "الليل لا زال طفلاً يحبو" مشاغبات غير مأمونة العواقب. عشية الخميس كانت حدثا استثنائيا، فقد انتشر الجند في الشوارع لتأمينها ترقبا لزيارة الرئيس البشير، وأمضى العسكر ليلهم مدججين بالسلاح في الشوارع المدينة. اما عند الصباح الباكر فقد تحول قلب المدينة والشوارع الرئيسية لثكنة عسكرية.. الشوارع جميعها مغلقة بالشاحنات العسكرية، ويمنع التحرك حتى الموتورسيكلات التي تعتبر وسيلة المواصلات الأكثر شيوعا في المدينة منعت من التجوال.. العسس كانوا يرتدون أزياء مختلفة.. الجيش والشرطة وقوات الأمن وأسلحة متعددة.. الجنود ينتشرون أشبه بالطابور العسكري بصورة لم أرها من قبل، واضطرت لأن أمضي راجلاً من مقر إقامتي الى القصر الجمهوري -وهي مسافة غير قصيرة- لتعذّر الحصول على سيارة أجرة أو بودو بودو (موتورسيكل) وهو يعادل لدينا الركشة *من حيث الذيوع..* الدخول للقصر الرئاسي كان قصة اخرى. إجراءات أمنية مشددة. فحكومة الجنوب كانت في حالة ذعر من ان يصيب البشير اي مكروه وهو في جوبا.. صحفيو جوبا كانوا في غاية اللطف معي وأنا في بادئ الأمر كنت الصحفي الشمالي الوحيد هناك قبل وصول الوفد المرافق للرئيس.. فيلب ضيل، المصور السابق في وكالة السودان ومسؤول الإعلام الخارجي بحكومة الجنوب، يسّر لي اذونات العمل الصحفي، وبدّد هواجس بعض الرسميين هناك.. وقلدني قلائد عرفان لا تبلى. عدد غير قليل من الصحفيين كان قد درسوا الجامعات في الخرطوم وعملوا في اجهزة الإعلام تبادلنا الحوار، وكان جلهم يرى ان على الدولتين تجاوز المرارات والتركيز على المصالح لأن هذا حال الدول والشعوب، وقالوا ان شعب الجنوب لا يرغب في الحرب ولكنه يتوق للاستقرار.. كان أسئلتهم عن الوضع الاقتصادي في الشمال و هل سيترشح البشير ؟ ومن سيخلفه؟ وهل الحكومة جادة في تنفيذ اتفاق التعاون مع الجنوب؟.. ويسألون عن صحيفة (الانتباهة)، وعن أحبائهم وزملائهم في الخرطوم. صحفيو جوبا يتابعون اخبار السياسة في الخرطوم بصورة مدهشة، وكأنهم ما زالوا جزءاً من الدولة السودانية. احدهم قال لي انه يبدأ يومه كما السابق بتصفح صحف الخرطوم صباحا عبر الشبكة العنكبوبية المتناهية البطء والدلال.. ويتحسرون على غياب المطابع تماماً عن جوبا، فكل الصحف هناك تعد بالداخل وتطبع بدول الجوار.. فالجنوب دولة مستهلكة من رأسها حتى أخمصها، وهذا مايقلق المثقفين هناك ويطالبون الدولة بتوظيف موارد النفط للتنمية.. فالجنوب يخلو من المشاريع الزراعية والمصانع ويعتمد بنسبة 98% على موارد النفط لشراء حاجات المواطنين كافة. نعم هناك حالة زهو وسط مثقفي الجنوب بتحقيق دولتهم، لكنهم لا يخفون قلقهم من التحديات الهائلة التي تعترض بناء الدولة الوطنية الحديثة. سماء جوبا ملبدة بالشائعات السياسية حول ان باقان أموم يرغب في الترشح في مواجهة سلفاكير ليكون رئيساً للبلاد، وتتناثر هناك أحاديث عن فساد بعض كبار رجال الدولة.. ثلاثة ايام في جوبا فترة قصيرة لكنها كافية لإعطاء مؤشرات بعد غياب لثلاث سنوات عن مدينة تأثرت بشدة بخروج موارد النفط والتوتر مع الخرطوم، وتعيش حالة التقشف بعد سنوات الرخاء بعد تدفق عائدات النفط اثناء الفترة الانتقالية، ولكن رغم ذلك أحسست بتفاؤل كبير من مواطني الجنوب بأن لديهم املاً في المستقبل.. فهم يعتقدون بجزم صارم انهم درة افريقيا من حيث الموارد الطبيعية من ارض خصبة ومياه ونفط.. يعشقونها حياة والاستمتاع بها.. جوبا الآن تحبس أنفاسها في انتظار تدفق أموال النفط مرة اخرى. خالد عبد العزيز [email protected]