..مع بداية العام الجديد 2011، سيعاد رسم خريطة العالم العربي مجددا، بعد إجراء استفتاء حق تقرير المصير في جنوب السودان، إذ تشير المعطيات إلى ان النتيجة تبدو محسومة، لجهة اختيار الجنوبيين الانفصال عن الشمال، وفي الواقع فإن الانفصال لن يكون مفاجئا، إلا لمن يضع رأسه تحت الرمال كالنعامة، ذلك انه منذ تم توقيع اتفاقية السلام في ابوجا، بين حزب المؤتمر الحاكم والحركة الشعبية لتحرير السودان عام 2005، كان واضحا لكل من يقرأ "الف باء" السياسة ان ما تضمنته الاتفاقية من اعطاء الجنوبيين حق تقرير المصير، عبر اجراء استفتاء عام يعني فتح الطريق واسعا لانفصال الجنوب، واقامة دولة جديدة، تحت أعين ما يسمى ب"المجتمع الدولي" ورقابة المنظمات الدولية، وهي فرصة ذهبية لمن يتربصون الشر بالأمة العربية، ويمعنون في تمزيقها وتقسيم المقسم، خاصة إسرائيل والعديد من دول الغرب التي لم تغادرها العقلية الامبريالية، واكثرها حماسا لإيذاء العرب الولاياتالمتحدة وبريطانيا، ولذلك نشطت هذه الدول خلال الفترة الماضية، في حشد الجهود السياسية لدعم توجه الجنوبيين نحو اختيار الانفصال، وكان من بين ذلك مبادرة نادرة لمجلس الامن الدولي، حيث ذهب اعضاؤه إلى جنوب السودان لعقد اجتماع هناك، في خطوة لافتة واستفزازية لحكومة الخرطوم، لتأكيد حق الجنوبيين في تقرير مصيرهم، وسط سيل متواصل من التصريحات، التي يطلقها مسؤولون أمريكيون وغربيون وامميون، تشجع مباشرة أو ضمنا على التصويت لصالح الانفصال، وبين تلك التصريحات ما ورد على لسان الرئيس الأمريكي باراك اوباما بالدعوة إلى قبول خيار الجنوبيين الانفصال، خلال زيارة زعيم الحركة الشعبية "سلفادير" إلى الاممالمتحدة قبل بضعة اشهر لترويج خيار الانفصال، وتصريحات اخرى يطلقها مسؤولو الحركة الشعبية تشكك بجدية حكومة الخرطوم وحزب المؤتمر الحاكم، بقبول نتائج الاستفتاء، إذا كان الخيار الانفصال، وثمة جدل متواصل بين الطرفين، بشأن الاجراءات التي تقوم بها اللجنة المشكلة للإشراف على اجراء الاستفتاء، وخاصة فيما يتعلق بتسجيل اسماء من يحق لهم المشاركة في الاستفتاء. وعزز الشكوك بين الطرفين تصريحات متبادلة حول التداعيات المتوقعة إذا كانت نتيجة الاستفتاء الانفصال، مثل سحب الجنسية من الجنوبيين المقيمين في الشمال أو حرمانهم من حقوق المواطنة، وكذلك الامر بالنسبة للشماليين المقيمين في الجنوب، وهذا بعض ما يخبئه المستقبل من تداعيات كارثية للانفصال، والتي قد تصل إلى العودة لجحيم الحرب، ذلك ان العقدة الرئيسية في مسألة ترسيم الحدود لم تحل، بل يبدو انها ستكون الصاعق الذي يفجر الوضع في أي لحظة، وهي المناطق التي تضم الثروة النفطية ومدينة "ايبي". الحالة السودانية لا تخرج عن السياق العام للعجز العربي، وغياب روح التضامن وترك مصير كل دولة تواجه مشكلاتها وحدها و"تقلع شوكها بيديها"، سواء كان ما تواجهه تحديات داخلية أو خارجية، بل واحيانا يتشفى بعض العرب ببعضهم، عندما يصابون بالكوارث، سياسية أو اقتصادية، ويتركون مصيرهم للتدخلات الخارجية، كما يحدث في فلسطين والعراق ولبنان واليمن، بعكس التجمعات الاقليمية والدولية المختلفة، التي لا تربطها علاقات قومية، وانما مجرد مصالح مشتركة، حيث تتعاون في التصدي للمشكلات التي تواجه بعض الدول، قبل ان تمتد تداعياتها إلى الشركاء الآخرين، كما فعل الاتحاد الاوروبي، عندما قام خلال العام الحالي بإنقاذ اقتصاد اليونان من الانهيار، عبر تقديم قرض ميسر يناهز 120 مليار يورو. كانت سلبية موقف الجامعة العربية، وهي واجهة للسياسات الرسمية للحكومات، العنوان الأبرز ازاء مشكلات السودان التي طال أمدها، ولا تغير من الامر شيئا التصريحات والبيانات اللفظية التي تصدر عن الاجتماعات العربية، أو يطلقها امين عام الجامعة وبعض المسؤولين العرب، التي تدعو للحفاظ على وحدة السودان، فهو كلام ليس له رصيد على ارض الواقع، وكان الاحرى ان يكون هناك عمل عربي جدي، خلال سنوات خلت لمعالجة المشكلات التي تعصف بالسودان، من حرب الجنوب إلى حرب دارفور، والخشية ان تمتد عدوى الانفصال إلى دارفور. واكثر من ذلك فربما كان بعض العرب يشجع الاطراف الانفصالية ويقدم لها الدعم، وكان التوتر الذي شاب العلاقات بين القاهرةوالخرطوم منذ تسعينيات القرن الماضي، على خلفية محاولة اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك، خلال ذهابه للمشاركة في قمة افريقية في اثيوبيا، عنصرا اساسيا في تعميق الشكوك وسوء النوايا بين الجانبين، والذي كان من نتائجها تفجير مشكلة حلايب، واستضافة القاهرة لقيادة الحركة الشعبية لتحرير السودان، التي لم تكن تخفي هدفها للانفصال وتخوض حربا ضارية لتحقيق هذا الهدف، وقد سمعت قبل اسابيع عبر احدى القنوات الفضائية احد قيادات الحركة الشعبية، يؤكد دعم مصر للحركة خلال الفترة الماضية، لكن يبدو ان القاهرة أدركت مؤخرا بعد فوات الأوان خطورة انفصال جنوب السودان على أمنها القومي، لا سيما وان شريان مصر الحيوي "نهر النيل" يمر من هناك، فاقترحت الكونفدرالية بدل الانفصال، وكان رفض الجنوبيين سريعا لهذا المقترح!. الامر الأكيد ان إسرائيل سعيدة بانفصال جنوب السودان، كما هي سعيدة بالكارثة التي ألحقها الاحتلال الأمريكي بالعراق، وبحالة التوتر التي يشهدها لبنان، وفي الوقت الذي يتكثف الجهد الدولي لتعميق الازمات العربية، فإن الولاياتالمتحدة تشغل العرب بلعبة المفاوضات العبثية بين الفلسطينيين وإسرائيل، دون ان تتخذ مواقف جدية تقود إلى تسوية مقبولة من قبل الفلسطينيين، بينما تؤكد التزامها بضمان "أمن إسرائيل" وتقدم لها الحوافز المغرية للمضي في سياسة فرض الامر الواقع، اما مجلس الامن الذي هرع مسرعا إلى جنوب السودان، لتأكيد دعمه لحق تقرير المصير، وضمان ذلك بنشر قوات دولية على حدود الجنوب، فإنه يقف عاجزا عن تنفيذ أي من قراراته المتعلقة بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ويكتفي بإصدار بيانات وتصريحات باهتة !. ليس غير معجزة تنقذ السودان من التقسيم، ونتمنى ان تتحقق "المعجزة"! وبطبيعة الحال فإن ما يتعرض له السودان من تحديات خطيرة ليس مصدرها الوحيد التدخلات الخارجية، فحكومة الخرطوم ونظام الانقاذ واحزاب المعارضة السودانية، تتحمل ايضا مسؤولية كبيرة عما آلت اليه الامور، حيث كان الحصاد تمزيق الوحدة الوطنية ومزيدا من الفشل على مختلف الاصعدة، وانفصال جنوب السودان هو في الواقع "بروفة" لما يحمله المستقبل للعرب من تقسيمات جديدة، والحال في الجنوب لا يختلف عن حال كردستان العراق، مع اختلاف نسبي في الواقع الجيوسياسي، لكن الحقيقة ان انفصال كردستان هو امر واقع، ينقصه الاعلان الرسمي والاعتراف الدولي فقط. بقلم : أحمد ذيبان (كاتب وصحفي أردني ) [email protected]