من أخطاء النظام المايوي الفادحة ، أنه مكن للجبهة الإسلامية القومية من البقاء والإنتشار، وقوى من شوكتها ،و ترك لها الحبل على الغارب فى إنشاء بنوكها "بنك فيصل " على سبيل المثال ، وشركاتها المتعددة ، وأطلق يدها في ممارسة العمل السياسى كاملاً، بينما حظره على بقية الأحزاب . إن تحالف الجبهة الإسلامية مع سلطة مايو ، كان خصماً كبيراً من رصيد مايو على ضئالته ! هكذا بدأت أخطاء مايو تتفادح وتتراكم بشكل بدأ يتهدد السلطة في وجودها .و كعادة الشماليين فى ممارسة رذيلة نقص العهود والمواثيق فى تعاملهم مع الأشقاء في الجنوب ، هذا النقص الذى وثق له الأستاذ أبيل ألير في كتابه الرصين " جنوب السودان التمادى فى نقص العهود والمواثيق "الذى ترجمه الكاتب الكبير الأستاذ بشيرمحمد سعيد طيب الله ثراءه .لقد خرق الرئيس نميرى إتفاقية أديس أبابا لعام 1972 ، وذلك بتعديل حدود الأقليم الجنوبى دون الرجوع اليهم ! ذلك الإتفاق العظيم الذي عمل عليه رجال من خيرة السودانين كفاءة ووطنية، يبقى لهم هذا الجهد محفوظاً في صفحات التاريخ وكذا في ذاكرة أمتهم .إتفاق أديس أبابا الذي أوقف الحرب وحقن الدماء وأزال الألغام من أرض الإحتراب ليبذر محلها أشجار السلام . كل ذلك كان من شأنه أن يصب فى مجري الوحدة إستقراراً وتنمية . لكن هذا الخرق فتح باب حهنم الحرب ثانية وظلت نارها موقدة طيلة أثنين وعشرون عاما ، كان وقودها خيرة شباب السودان الذين حرموا من تكملة تعليمهم ، ونعمة الحياة الزوجية والذرية الصالحة وأحلام المستقبل الوردية في الحصول على الوظيفة والسفر في بعثة كما فعلنا نحن . غسلوا أدمغتهم الهشة بالحرب المقدسة والجهاد والشهادة وبنات الحور ، علماً بأن الجنة تزخر بالفاكهة والعسل المصفي ولحم طير مما يشتهون ! . لم يكن لنظام مايو حظوظاً تذكر في إستقطابه لأبناء الريف ، لذا نلاحظ ان النخب المايوية في قمة هرم الإستوزار، كانت من ذات المجموعة التى قامت بالإنقلاب أو أصدقاءهم . لقد كان الحضور الطاغى لأبناء المدينة جلياً ، خاصة على المستوى العسكري وكذا المدنى .لكن الشاهد أن نظام مايو توافرت له ميزة فريدة لم تتوافر لغيرة من الأنظمة السابقة .إحتشد لنظام مايو من الكفاءات والإنتلجنسيا و المفكرين من السودانيين في ظاهرة لم تتوفر للإنقاذ ، ربما الوحيد من الأنقاذيين الذي يمكن أن يكون من هذا الطراز هو دكتور غازي العتبانى . خذ على سبيل المثال لاالحصر : الدكتورجعفرمحمد على بخيت –دكتور منصور خالد –دكتور محى الدين صابر –الأستاذ جمال محمد أحمد – الأستاذ عبدالرحمن عبد الله – الأستاذ عمر الحاج موسى-الدكتور أحمد عبد الحليم – دكتور حسن عابدين – بروفسر على شمو – بروفسر عبد الله احمد عبدالله وآخرون لايسع المجال لذكرهم ) رغم هذا الحشد النخوى منيت مايو بالفشل ثم سقطت لاحقاً في أعقاب إنتفاضة 6ابريل المجيدة عام 1985. لاحظ جميع الذين ذكرتهم ، لم تتلوث أياديهم أبداً بالمال الحرام ! رغم ما كان يقال عن فساد مايو وصفقات القصر المشبوهة.لا نستطيع أن نؤكد أن سلطة مايو في مراحلها المختلفة كانت طاهرة ولم تمارس الفساد . لقد مارست الفساد على مستويات عديدة يصعب حصرها هنا . لكن نستطيع أن نقول فى توكيد يسنده الواقع المعاش ، إن فساد مايو ما كان جلياً للناس يمشى فى الطرقات والأسواق ووسط ساحات الأحياء ، مثل ماهو فساد الإنقاذ .أكبر معلم يدلل على وجود الأنقاذ في السلطة ،علامات الفساد المادية في شكل العمارات والبيوت والقصور المنيفة والمزارع الضخمة الخاصة بكوادرها النافذة .هذا أمر بين ومكشوف وفاضح أمام أعين كل الناس . دع عنك الفساد الذي وثقه مراجعهم العام !ربما تأثر العامة عندما عرفوا أن الرئيس نميرى مات فقيرا وكذا الدكتور بهاء الدين مات هو الآخر فقيراً في لندن ومثلهم مامون عوض أبوزيد ومايزال خالد حسن عباس يعيش على كفاف يشرفه ، من هنا تعاطف الناس مع مايو ونفوا عنها تهمة الفساد .ولكن تظل تهمة السقوط والعهر السياسى تلاحق" مرتزقة مايو" الذين ما أن سقطت مايو حتى إمتطوا سرج الأنقاذ وإستوزوا وما زالوا وزراء في الإنقاذ يألكون الفتات ، وليس لهم من قرار ، بل تحتفظ بهم الأنقاذ " ديكوراً " لما يسمى بحكومة الوحدة الوطنية ! أعود فاقول إن عهد الإنقاذ أتصف بالفساد والبطش الدموى بمعارضيه ،والقتل والتقتيل في غير رحمة دون خشية من الله أ, تأنيب من ضمير ! . تأمل فى ما حدث لأهلنا في دافور من قتل وبطش وتعذيب وحرق للقرى وإغتصاب للنساء ، لو حدث هذا في قرانا فى شمال السودان ،كان الناس تصدوا لهذه السلطة الجائرة في شرف وبسالة،حتى يموتوا شهداء الحق والعرض والشرف ، مثلما حدث في المناصير وكجبار وأم دوم والعيلفون وترعة جامعة الجزيرة .إن أبناء القرية الذين رفعتهم الإنقاذ ووضعتهم على قمة سلطتها ، هم كانوا مثلنا ونحن مثلهم أبناء ريف ،ركبنا الساقية وذهبنا للطاحونة ، ورعينا الغنم ، وقطعنا سنابل القمح الذهبية وأكلنا " الدفيق " قبل أن يكتسى حمرة ثم يصبح رطباً وتعلقنا بفروع الشجر ونحن نعوم في النيل فى موسم " الدميرة " أى الفيضان .كنت دائماً أكرر القول لأصدقائى : " لو كنا في السودان ولم تكرمنا الغربة رغم مافيها من عذاب البعد عن الوطن والأهل ورفاق الطفولة ومراتع شغبها ، هل كنا فسدنا مثل ما فسد هؤلاء ؟أترك الإجابة لفطنة القارىء الحصيف . في الختام أستطيع القول إن إدمان النخب الحاكمة للفشل وممارسة رذيلة الخيبات ، سواء أن كانوا من الريف أو المدينة فى أي نظام سياسى كان وعبر أي حقبة كانت منذ الأستقلال وحتى اليوم ، مرده غياب مشروع وطنى يستثمر التنوع العرقى والإثنى والثقافي والجغرافى ، يتوافق عليه أهل السودان كافة دون إقصاء لأحد حتى ولو حمل السلاح ، هذا التوافق يؤسس لقيام الدولة المدنية الى يعلو سقفها فوق : الدين والعرق والجغرافية واللون واللغة .لو لم يشهر غلاة الإنقاذ وصقورها سلاح الشريعة فى وجه أشقاءنا في الحنوب لما إنفصل الجنوب ودخلنا فى هذا النفق المظلم .كل من يريد زج الدين في السياسة أى دعاة الدولة الدينية ، عليهم إعادة قراءة قوانين سبتمبر وما ألحقته من ضرر بالغ بسمعة السودان في الداخل والخارج ،بل وما الحتقته بإسلام أهل السودان الراقى والمتسامح سماحة الطرق الصوفية التى قامت على نشره في ربوع السودان .يجب أن يفهم جيدا أن فصل الدين عن السياسة ليس المقصود به فصل الدين عن الدولة ، لأنه لايعقل أن لاتكون الدولة راعية للأديان ومشرفة على المسجد والكنيسة ومعتنقى هذه الأديان من المسلمين والمسيحيين والوثنيين وأصحاب كريم المعتقدات.حتى نحفظ للدين قدسيته وحرمته ، يكون بعيدا عن السياسة وممارساتها غير الأخلاقية أحياناً .حتى لايأتينا حاكم آخر بأسم هذا الدين المسيس يقتل مفكرين أخر من أمثال الشهيد محمود محمد طه أو يقتل شاباً بريئاً مثل مجدى محجوب ! بدون ذلك لن يبقى من الوطن لا حوش بانقا ولا كرفاب ربيع عبد العاطى ! إنتهت الحلقات والتقيكم في موضوعات اُخر . جعفر عبد المطلب [email protected]