حاول ساسة بلادي يمينا ويسار كدأبهم أن يمارسوا نوعا من الانتهازية الرخيصة في الإتجار السياسي المبتذل باستغلال حالة الالتفاف الجماهيري الشبابي على وجه الخصوص حول الحالة الإبداعية للراحل العزيز محمود عبدالعزيز والتي برزت برحيله الفاجع الذي جمع قلوب معجبيه على مصاب فقدهم له بعد أن عز على هذه القلوب أن تجتمع على أمل من بناء الوطن على المحبة والوحدة والسلام بسبب فشل النخب السياسية الحاكمة والمعارضة في تقديم مشروع أو مشاريع صادقة وجاده وجديده وإبداعية تجعل أرواحهم وعقولهم تشرأب متحدة في الحدود الدنيا من الاتفاق والوئام نحو الثوابت الوطنية الكبرى ممثلة في الوحدة والسلام والعدالة والتنمية والرفاه لهذه الأجيال المنهكة بويلات الحروب ورهق الفقر وخيبات الأمل التي توجت في قمتها بفصل الجنوب عن الشمال على حد ما أراد انفصاليو الجنوب أو فصل الشمال عن الجنوب على حد ما أراد رصفائهم في الشمال وهم سيان ما دام الناتج واحد في آخر المطاف . ما دفعني للكتابة هو مقالات شاعرية ورقيقة وجميلة للرفيق كوماندر ياسر عرمان دبجها في حق الراحل محمود عبدالعزيز أم في حق نفسه ومشروعه السياسي لا أدري ! وعنوانها مساء من الحب والتمرد لمحمود عبدالعزيز منشورة في نوبة تايمز الإخبارية في الأنترنت وفيها حاول الرفيق بقدر ما أوتي من قدرة على الإفصاح وبلاغة في التعبير أن يثبت أن محمود عبدالعزيز مع مشروعه الأيد لوجي الفكري ومع طرحه السياسي النظري الذي حمله هما في وجدانه وهاجسا يملأ كيانه ويسد الدروب على كل ضروب الإبداع الأخرى التي (لو) أطلق لها العنان وتركها تتدفق لأثرى الساحة الأدبية بشاعر فذ أو ناثر جميل ثر العطاء ولكن هيهات ! فلقد تسلط المشروع والعمل السياسي علي مكامن الإبداع في التكوين الشخصي للرفيق عرمان فالإبداع لا يطيق القوالب الأيدولوجية ولا يخضع لقيود السياسة وحساباتها المنطقية والواقعية ،وما أجتمع تناقض الإطلاق للفكر والخيال وقيد العمل للواقع والمآل تحت الظلال الوارفة للحب والخير والجمال إلا لنفر قليل من أصحاب الرسالات الذين مثلوا نقاط تحول جوهرية في حياة شعوبهم والإنسانية جمعاء ومنهم الرسول محمد (عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم) وفي أمره من الغيب ما يحتاج إلي التسليم والإيمان ومنهم في عصرنا المهاتما غاندي وفي بلادي منهم الشهيد محمود محمد طه لو لم تطاله يد الجلاد البليد ومنهم الراحل جون قرنق لو لم تقطفه يد المنون ، وهم الذين ينطبق عليهم وصف محمود درويش في لوحته السريالية التي أطلق عليها الجدارية ، حين قال :- أنا لست مني إن أتيت ولم أصل أن لست مني إن نطقت ولم أقل أنا من قالت له الحروف الغامضات أكتب تكن اقرأ تجد وإذا أردت القول فأفعل يتحد ضداك في المعنى ..... وباطنك الشفيف هو القصيد فهؤلاء توحدت ذواتهم وتكاملت شخوصهم حول معاني وقيم فتقمصوها فصارت منهم وصاروا منها فتوحد عندهم الفكر والقول والعمل وأنتهى التعارض الوجداني وذابت التناقضات وحلت السكينة والسلام بدواخلهم وأصبحوا لا يخشون العالم الذي يمور ويضطرب من حولهم فتشع منهم هالات القداسة والصفاء فينثرونها على من حولهم فتحس في حضورهم بسلطانهم الروحي وقدرتهم على التأثير فيمن يتصل بهم وبذا صارت أحلامهم حقائق وأفكارهم أقوال وممارسات ترشد الناس وتنير الدروب والعتمة في سراديب الجهل والظلام. وهؤلاء أجتمع عندهم الأدب والثقافة والفنون والشعر مع الفكر والإصلاح فكان منهم ما كان من أثر باق لا تخطئه العين ولا يضل عنه الجنان ولا تبعد عنه البصيرة ولا البصر ! ولا أظنه (الرفيق عرمان) يطمع في منزلتهم أو حتى القرب من مثالهم فكرا يتسق مع العمل والمسلك وأخي الرفيق عرمان أظنه شاعر ومثقف رفيع ضل طريقه إلي عالم السياسة ولذلك ظل يقاتل ولا يسالم ويعارض ولا يحكم ويثور ولا ينظم ويتمرد ولا يبني ويشاكس ولا يساعد ولهذا فشل في التأثير على معطيات الواقع عندما سنحت له فرصة بناء واقع جديد في داخل تنظيمه ناهيك عن السودان في الفترة الإنتقالية فكان معارضا لحكومة الوحدة الوطنية وهو جزء منها أي يتمرد على نفسه وتنطبق عليه صرخة أمل دنقل حين صاح محرضا على الثورة ممجدا ثورة سبارتاكوس قائد ثورة العبيد في روما القديمة ،يائسا قنوط من كل أمل في الصلاح ولكنها أي الثورة عبث الوجود وصخرة سيزيف يحملها لمستقرها فتعود إلي القاع فيضطر إلي الصعود بها في دورة تتكرر ولا تنتهي :- فقال في كلمات سبارتاكوس الأخير:- المجد للشيطان معبود الرياح من قال لا في وجه من قالوا نعم من علم الإنسان تمزيق العدم من قال لا فلم يمت .....وظل روحا أبدية الألم إلي أن يقول:- لا تحلموا بعالم سعيد فخلف كل قيصر يموت قيصر جديد وخلف كل ثائر يموت أحزان بلا جدوى ودمعة سدى . وأخشى أن يظل الرفيق روحا أبدية الألم كلما خلص جنوبا بالثورة على الشمال أضطر لخلق جنوبا آخر مواصلة لألآم الثورات ومخاضها الذي لا ينتهي إلا وينطلق آخر وتصبح الثورة هي صخرته التي ينقلها إلي مستقرها فتعود أدرجاها إلي القاع فيعاود الكره معها في عبث ليست له حدود وببساطة لأن الألآم عنده ليست حالة موضوعية وإنما قلق إبداعي يحمله في داخله وضل طريقه في سعيه للتعبير عن نفسه وإظهارها للوجود وللناس كما نجح محمود في ذلك ، ويكون الأدب بذلك قد فقد شاعر وأديب وربحت السياسة متمرد عنيد يجيد صناعة الخراب ولا يحسن البناء. ولكل ذلك ظلت تلك المقالات في حق محمود رغم ما احتواها من ألق وإشراق وجمالا وبهاء في ظاهر اللغة إلا أنها افتقرت في روحها وباطنها للصدق والجدة والأصالة ولهذا ظلت كالأزهار البلاستيكية باردة يابسة بلا رائحه ولا رحيق أو عبير فمحمود عبدالعزيز حالة من قلق الوجود الإبداعي أتخذ من منفذ الغناء قناة يتدفق من خلالها إلي آذان وقلوب وارواح السامعين فيسري في الأبدان ويثري الوجدان بلا حساب ولا قيود فيمتلك النواصي ويتسامى بالأحاسيس من غير طمع في سلطة أو مال ،وأظن أن المأخذ الأساسي الذي سلب كتابة الرفيق تلقائيتها هو طمعه في أن يستغل ظهر الراحل محمود عبدالعزيز مطية لأغراض السياسة لينافس المؤتمر الوطني في الاستحواذ على دعم وتأييد الشباب المحب والمعجب بالفنان محمود. وقد ذكر الرفيق عرمان في معرض استدلاله على أن محمود ذو ميول يسارية ولمشروع الحركة الشعبية أنه قد شارك معه في برامج الإعداد لاستقبال الراحل الخالد /جون قرنق وفي رأيي أن الملايين الذين ذهبوا لاستقبال قرنق لم يكونوا من أهل اليسار ولا من الحركة الشعبية بل من عامة أهل السودان بمختلف أفكارهم ومشاربهم وجهاتهم وقبائلهم وفئاتهم الاجتماعية وقد أدركوا ببساطة حسهم وعفويتهم أن للرجل من الفكرة والطموح والروح ما يمكن أن يقود لتشكيل مخرج من الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي المأزوم والمتردي والذي يمكن أن يؤدي ببلادهم للتمزق وبحياتهم للتشتت والخراب ومحمود في فرحه واحتفائه بقدوم جون قرنق لا يختلف عن هؤلاء البسطاء العقلاء الشرفاء. وفي استشهاد فطير آخر أورد الرفيق عرمان ما نصه أن محمود عبدالعزيز قد أشترى 2000 من التي شيرتات من حر ماله وطبع عليها صورة الراحل قرنق من جهة وصورته(محمود) من الأخرى ولا يعتبر ذلك دليل انتماء للحركة الشعبية أو انحياز لها إذ يمكن للمؤتمر الوطني أن يحتفل بارتداء الفنان للجبة الخضراء رمز التصوف ويعتبر ه إسلاميا من أهل الصفة ،ولا حتى وقوفه في صف مرشح الحركة لرئاسة الجمهورية فكثر هم من صوتوا للحركة ولمرشحها رغبة في التغيير وكسرا لروتين احتكار المؤتمر للسلطة ولم يكن ساعتها من مرشح أقرب لمنافسة البشير منكم وأظن أن الشعب السوداني مدين لكم بتفسير سر انسحابكم ذلك المريب ،وأظن أن التفسير السليم لسر تقلب مواقف الفنان من أقصى اليسار إلي أقصى اليمين هو رغبته الأكيدة والتي يشاركه فيها الكثير من عشاقه الشباب في أن يتحد أهل السودان شرقهم وغربهم شمالهم وجنوبهم يسارهم ويمينهم المعارض منهم والحاكم على ثوابت تعلي من شأن الوطن وتقدمه على الاختلافات وحل الخلاف بالوسائل السلمية وليس بفوهات البنادق وليس كما حاول الرفيق أن يفسره بالضبابية وغياب الوعي أحيانا عندما وصفه في الاقتباس التالي(وهو شخص يتميز بالكاريزما التي تمكنه من اتخاذ المواقف الشجاعة والوضوح في معظم الأوقات رغم تعقيدات الوضع السياسي والمصاعب التي أحاطت بحياته وإذا ضاعت بوصلته لبعض الوقت ولم يتمكن من حل شفرة الوضع السياسي سرعان ما يستعيد بوصلته نحو الاتجاه الصحيح) أي الفرضية هي أن البوصلة يجب أن تشير دوما صوب الحق المطلق وهو في هذه الحالة الحركة الشعبية واليسار ولعمري أن في هذا جرثومة التسلط والانغلاق على رأي واحد التي لا تقبل بالآخر المختلف وهي مشكلة السياسة والحياة في السودان شمال او جنوب يسار أم يمين وهو نهج كثيرا ما تجلى في مواقف وسلوك الرفيق عرمان خلال الفترة الانتقالية مما جعله يقعد بالحركة الشعبية عن التحول من حركة متمردة عسكرية مسلحة يدار أغلب شانها بالتعليمات إلي حركة سياسية مدنية تقود التحول الديمقراطي في السودان الجديد بداية بداخلها وفوتت بذلك فرصة تاريخية لجمع شعث الشتات السوداني على أدب الاختلاف واحترام الآخر. مع كامل احترامي للرفيق عرمان ومحاولته لتمجيد الراحل محمود عبدالعزيز وإن شابها الغرض فقصر بها عن قصدها. عمر عبدالرحمن عبدالله البشاري 8/5/2013 e-mail :[email protected]