يعتبر التدريب المهني من اهم ركائز تنمية الموارد البشرية خاصة بعد الثورة الصناعية و التقنية التى يشهدها العالم فى شتى المجالات , تطور عمل على تقليل الجهد البشرى العضلي ,فأصبحت الحاجة الى عمالة ماهرة و فنيين فى مختلف مجالات سوق العمل امر ضروري للاستفادة من هذه التقنيات , و ان اهتمام الدول بتوطين المعرفة بهذه التقنيات نابع من اهميتها فى عملية النمو الاقتصادي و ازدهار الدول, نجد ان دول كثيرة بلغت تصنيف العالم الاول بالاستثمار فى العقول و الأيادي الماهرة فنجحت فى تعويض شح الموارد الطبيعية الوطنية , و بذلك صار المورد البشرى من اهم الثروات فى العصر الحالي. تعرف منظمة العمل الدولية التدريب المهني بانه العملية المنظمة التي تكسب الفرد المهارة و المعرفة و الاتجاهات في اي من اوجه النشاط الاقتصادي بهدف الاستخدام المنتج ورفع الانتاجية , فالتدريب يقلل تكلفة و زمن الانتاج مع تجويد للمنتج نفسه , و يضيق احتمالات الاخطار و الخسائر فى المؤسسة او المنتج. بدا السودان يهتم بالتدريب المهنى بعد الاستقلال مباشرة حيث تم انشاء اول مركز للتدريب المهنى بالسودان بمدينة الخرطوم سنة 1957 ,كان الغرض منه ترقية و ترفيع قدرات القوى العاملة و ثقل مهاراتها حتى تكون قادرة على الاداء الجيد و تلبية احتياجات سوق العمل الصناعى و المهنى خاصة بعد خروج الفنيين و المهندسين الاجانب مع المستعمر , كان هذا المركز اكثر شمولا من مدرسة جبيت الفنية التى انشات سنة 1920 خصيصا لتدريب عمال السكة حديد. واخذ التدريب المهنى يتطور و يتوسع بشكل مطرد بفضل منح قدمتها الدولة الصديقة للسودان , فإنشات جمهورية المانيا مركز الخرطوم 2 و مركز اخر فى بورتسودان لتغطية الاحتياجات التدريبية لجميع دول الساحل و شرق افريقيا , و فى فترات متباعدة قدمت الصين , كوريا , اليابان , تركيا دعم غير محدود لأنشاء و تطوير مراكز التدريب المهني بالسودان بالإضافة الى مساعدات اخرى قدمتها منظمة العمل الدولية , برنامج الامم المتحد الإنمائي , منظمة التنمية الصناعية , الوكالة اليابانية للتعاون الدولى و غيرها من المنظمات و الوكالات الدولية حتى بلغ عدد مراكز التدريب المهنى بالسودان (بعد انفصال الجنوب) 11 مركز حكومي بالإضافة الى 19 مركز تدريب مهنى يملكها القطاع الخاص او القطاع الحكومي مثل المراكز المتخصصة كمعهد القوات المسلحة بضاحية (الكدرو) بمدينة الخرطوم بحرى و غيرها من المؤسسات الحكومية. الملاحظ ان معظم مراكز التدريب المهني الحكومية القائمة الان تم انشاؤها بمنح من دول صديقة للسودان و هذا يدل على عدم اهتمام الدولة بهذا المجال, ربما لأسباب قد تكون ذات صلة بالمال, او ضيق النظرة الاستراتيجية لمستقبل القوى العاملة , او سوء التخطيط بسبب عدم الاعتبار للتطور الصناعى و التقني فى العالم. و لذلك ظل التدريب المهني فى السودان يعانى مشاكل جمة جعلته غير قادر على تلبية احتياجات سوق العمل او رفده بعمالة ماهرة قادرة على الانتاج و العمل فى بيئات تقنية و آلية اكثر تقدما, هذا يعود للأسباب التالية. (1) عدم مواكبة مناهج التدريب المهنى و التلمذة الصناعية للتطور التقني و الصناعى العالمي فتجد ان هذه المناهج لم يتم تطويرها منذ العام 1974 و خلال الاربعين عام الماضية شهد العالم طفرة صناعية و تقنية غاية فى التعقيد , فبتالي صار خريجي التدريب المهني غير قادرين على التعامل مع هذه التقنيات و الاليات الحديثة و ببساطة لان الآليات المستخدمة فى السوق سبقت المنهج السودانى بأربعين عام. و لمزيد من التوضيح للفجوة ما بين المناهج الحالية و سوق العمل سوف اورد بعض الامثلة , مثلا معظم مصانع العالم و بعض من مصانع السودان تعمل بنظام التحكم الإلكتروني القابل للبرمجة (PLC), ومن ضمن مميزات هذه التقنية استخدام الحاسب الآلي فى تشغيل و ضبط حركة الانتاج من خلال التحكم فى الماكنة او الآلة المنتجة, حتى الان لم تعتمد او تطور الجهات المسؤول عن التدريب المهني فى السودان أي منهج لتدريس هذه التقنية الحيوية لطلاب التدريب المهني و لا يوجد غير مركز حكومي واحد يقدم تدريب فى هذا المجال و هو المركز السودانى الكوري, حيث يستخدم فى التدريس دليل (Manuel ) تنتجه الشركة المصنعة للوحدة , اما مركز التدريب المهني بورتسودان (الميناء البحري الوحيد) لا يقدم تدريب فى مجال ما يسمى باللحام تحت الماء و هى تقنية لصيانة السفن الراسية فى البحر , فتضطر شركات الملاحة احيانا تأسيس اطقم صيانة من فنيين اجانب , او من سودانيين بعد ان تنفق عليهم كثير من المال لتدريبهم فى دول اخرى او ان تتعاقد مع شركات اجنبية لإصلاح الاعطال من هذا النوع. و الجدير بالذكر ان المركز السودانى الكوري هو عبارة عن منحة من الحكومة الكورية الجنوبية التى تكفلت بإنشاء المباني و توفير المعدات مع تدريب كافي للمدربين على هذه المعدات , و فى العام الفائت وفرت الوكالة اليابانية للتعاون الدولى معمل تحكم الكتروني من عشرة وحدات لمركز الخرطوم 2 و بدأت فى دعم المجلس الاعلى التدريب المهنى فى تطوير المناهج و اعتماد التقنيات الجديدة من بينها التحكم الإلكتروني القابل للبرمجة , و قيس على ذلك فى المجالات الاخرى مثل النقل الاتوماتيكي لحركة السيارات , و نظام الحقن الإلكتروني للوقود , التكييف المركزي كل هذه المجالات لم يتم تطوير مناهج لها مع انها ظهرت على مستوى العالم و بدا استخدامها فى السودان قبل عشرات السنين . (2) تقادم و تهالك المعدات و النماذج التدريبية, فلا يعقل و فى العام 2013 حيث بدأت سيارات من نوع (لامبورجيني و الهمر) تخذوا طرقات العاصمة , ولا زال تدريب و تعليم طلاب قسم السيارات بالمراكز يتم على نموذج سيارة موديل 1965, او ان يستخدم اجهزة القطع التقليدية فى وقت تستخدم كثير من المصانع العالمية و السودانية تقنية القطع بأشعة الليزر, فكما ان مناهج التدريب المهني تحتاج الى تحديث مستمر لتواكب التكنولوجيا كذلك يجب ان يتم تحديث النماذج التعليمية بورش التدريب , حتى تتمكن هذه المراكز من تخريج مهنيين لهم القدرة على المنافسة فى سوق العمل و تقليل حجم العمالة الوافدة. (3) هناك مشاكل تتعلق بالميزانيات التى ترصدها الدولة لتشغيل مؤسسات التدريب المهنى , كما هو معروف ان التدريب المهني من اغلى انواع التعليم , لان التطبيق العملي للدروس يحتاج لأدوات و معدات معينة تمكن الطلبة من التعلم و ثقل مواهبهم من خلال انجاز الفروض العملية , ايضا من متطلبات العملية التدريبية و خاصة التطبيقية , المواد الخام , فأقسام مثل تشكيل المعادن او المنتجات الحديدية تحتاج الى مواد يتمرن عليها الطلبة فعدم توفر هذه المواد تحد من فرص الطلاب فى تجويد مهاراتهم . (4) بدائية الوسائط التعليمية, ان العملية التعلمية و التدريبية الحالية تتم بوسائط فقيرة لا تمكن الاستاذ من نقل المعرفة و المهارات بشكل سريع و بسيط كسبا للوقت و المواد , فمثلا تنعدم النماذج التدريبية التى تعرف ب Simulation مثل ان يكون هناك جهاز تمثيلي لنظام التبريد فى السيارات او نظام التكييف المركزي , بالإضافة لعدم وجود الوسائط السمعية و البصرية مثل اشرطة الفيديو , و اجهزة العرض مثل البروجكتر , فما زال الاساتذة يستخدمون السبورة و الطباشير لرسم اجزاء الاجهزة او الدوائر الكهربائية لتعليم الطلاب و هذا عمل شاق يبدد طاقة الاستاذ و يهدر وقت اكثر , هل هناك صعوبة فى ان توفر الدولة اجهزة عرض (بروجكتر) لمركز التدريب المهني المحدودة حتى ترفع من كفاءتها , هل من الصعب ان تتصل الجهات المعنية بالتدريب المهنى بشركات السيارات او الاجهزة المنزلية.... مثلا لتحصل على أفلام تعليمية من تلك التى تنتجها هذه الشركات لتسهيل و تجويد خدمة عملائها. (5) الثقافة المجتمعية الخاطئة التى تصنف التدريب المهني فى خانة خيارات الاغبياء الذين فشلوا فى إحراز مجاميع كبيرة تأهلهم لبلوغ الثانوي العالي, و لا زالت كثير من الاسر تختار هذه الوجه لا بناءها من ذوى المردود الاكاديمي الاقل , فنظرة المجتمع لخريج التدريب المهني تتسم بشيء من التحقير مما جعل كثير من الاشخاص يعزفون عن ارتياده ̧ ومن تخرجوا منه اضافوا لأسمائهم لقب مهندس تجنبا لهذا العار, هذا التقليل من شان التدريب ساهم في تفاقم ازماته بجعله حقل غير مرغوب فيه, لكن هذه النظرة تنطلق من عقليات سطحية . فألمانيا مثلا تشتهر بإنتاج افضل الماكينات على مستوى العالم بفضل العمال و الفنيين المهرة و ليس بفضل المهندسين فقط و شهدنا كيف حول (هتلر) معظم الشعب الألماني و خاصة الشباب الى عمال بمصانع الانتاج الحربى , فانتج هؤلاء الشباب الاقل تعليما و بمساعدة المهندسين , الطائرات , السفن , غواصات ...الخ , اما الصينين المتواجدين بالسودان منحونا دروسا مجانية , من بين هذه الدروس انك لا تستطيع التمييز ما بين العامل و الفني و المهندس كلهم فى موقع الانتاج و كلهم يعملون بالتزام و جدية وبنفس الزى الموحد (ابرول) ليس كبعض مهندسينا الذين يفضلون الجلوس خلف المكاتب الكبيرة , اما اليابان تعتبر اروع مثال يضرب بشان اهمية الموارد البشرية. (6) تغول السلطات على مراكز التدريب بسبب نظرتها السطحية و الضيقة للتدريب المهني, او لإرضاء ولاة بعض الولايات تم تحويل مراكز التدريب المهني بكل من نيالا , مدنى و بورتسودان الى كليات تقنية , تخرج هذه الكليات فنيين يسموا انفسهم مهندسين , فبدلا من ان تطور السلطات التدريب المهني فى هذه الولايات قامت بتحويله الى مسخ غير قادر على رفد سوق العمل بعمال ماهرة, و لمزيد من توضيح للفرق ما بين تخطيط الموارد البشرية فى السودان و الدول الاخرى , تمعنوا فى هذه المفارقة, قال مندوب السفارة الهولندية فى احدى المنتديات السودانية ان 20% فقط من الطلاب الهولنديين الناجحين يتم قبولهم بالجامعات اما ال80% يذهبون الى مراكز و معاهد التدريب المهني و التقني , اما فى السودان تجد ان الطاقة الاستيعابية للمراكز التدريب المهني الحكومية لا تتجاوز 3 الف طالب فى العام. كل هذه الاسباب و غيرها التى لم يتسع لنا الوقت لذكرها , اقعدت عملية تطوير الصناعات الوطنية , و استنزفت العملة الصعبة فى استيراد سلع رديئة كان يمكن صناعتها فى السودان و بجودة عالية اذا ما اهتمت الدولة بالتدريب المهني , كذلك اقول للذين يتضجرون من استيلاء العمالة الاجنبية على سوق العمل, ان ما ذكر انفا هى بعض من مسببات هذا الغزو فلن يتحرر سوق العمل ما لم تعالج جزور هذه الازمة, و الى حين ذلك من الطبيعي ان نشاهد الاتراك يسيطرون على اعمال الستائر و الديكور , المصرين على اعمال النقاشة و السراميك , اللبنانيين على وظائف الطبخ و تجهيز الاغذية و المأكولات...الخ, و شبابان عاطل بلا عمل , فاذا كانت الدولة راغبة فى تقليل معدل العطالة و تقليل الضغط الأجنبي على سوق العمل يجب ان تعيد النظر فى سياساتها المتعلقة بالتعليم العالي و التدريب المهني , ليس من الحكمة فى شيء ان يكون كل الشعب حملة شهادات جامعية. و بما اننا تطرقنا للعمالة الاجنبية و لمزيد من التوضيح حتى نتعرف على بعض جوانب القصور التى ساهمت فى احتلال كبير لسوق العمل السودانى بواسطة العمال الاجانب , من بين هذه العوامل ان العامل او الفني السودانى لم يربى او يعلم على المسئولية و الانضباط, فالإهمال و عدم المبالاة الموجودة فى القطاع الحكومي امر غير مقبول فى القطاع الخاص الذى يرجو الربح , فلا تفرط شركة او مصنع مثلا فى ان تسلم ماكينة او آلة تقدر قيمتها بمئات الالاف من الدولارات لشخص غير مكترث و غير منضبط ليعطلها فى فترة وجيزة و يبرر لذلك بالقدر كما يحدث عند القطاع العام الفاقد لنظم المحاسبية و الرقابية. نعم كل الامور بمشية الله , لكننا كسودانيين لا نضع اعتبار و اهتمام للأمور الصغيرة و نهون من شأنها , ونستسهل التقصير (تكل تكل) و سوء الادارة و غياب المحاسبة (المجاملة ) , ايضا اننا شعب مشهور بإضاعة الوقت و هدر الزمن , اما العمال الاجانب يعبدون عملهم و يحترمون النظم و اللوائح , فالتعليم او التدريب لا ينحصر او يقتصر على اكتساب المعرفة او المهارات بل يذهب الى اعمق من ذلك لتهذيب و تقويم السلوك لتصبح اكثر ايجابية , لان كثير من الكوارث و الخسائر حدثت نتيجة لأخطاء بشرية فنية او سلوكية مثل كارثة محطة تشرنوبل النووية و كارثة حقل النفط البحري (الفا).....الخ . ان الدولة الصديقة للسودان و المنظمات الدولية بزلت جهود جبارة لانعاش التدريب المهني من الهلاك لكن بالمقابل الجانب السودانى لم يتعاون مع هذه الجهات بشكل يوازى هذه الجهود حتى تحقق هذه المنح الفائدة القصوى , وفى اقلب الاحوال يشترط المانحين مساهمة مالية من الحكومة السودانية فى مثل هذه المشروعات لتأكيد الرغبة و الجدية و لضمان الاستمرارية و الملكية الوطنية للبرنامج , لكن تجد كثير من هذه المشاريع لم تحقق اهدافها بسبب عدم ايفاء الحكومة بالتزاماته فى توفير المكون المحلى او الكادر الوطني المناسب ليستفيد من عمليات نقل التقانة. لكن مازالت الفرصة سانحة لان تعيد الدولة التدريب المهني فى السودان الى الطريق الصحيح و كخطوة اولى تبدا بتطوير المناهج لتواكب التقانة و التطور الذى يشهده العالم فى شتى المجالات , اعادة تأهيل مراكز التدريب الحالية من حيث المنشآت , المعدات , الادوات و انشاء مزيد من المراكز بمواصفات عالية , تنظيم و ادارة المهن و المهارات لدى سوق العمل و رفع قدرات المشتغلين بها , وفوق كل ذلك وضع ميزانيات مقدرة لإدارة و تشغيل مراكز التدريب المهني و من بين مقترحات معالجة المشاكل المالية هو السماح للمراكز بأنشاء وحدات انتاجية استثمارية لترفد خزائنها بمزيد من الاموال يوظف لصالح تحسين بيئة العمل و التعليم. محمد حسين موسى ادم [email protected] مايو 2013