يقلب "حكيم " كتب التاريخ ينقب في المصادر يبحث في المراجع يخرق ثقباً يفتح نافذة يواري باباً ينفذ من خلاله تصده جحافل الغزاة يتسلل خلسة يتخفى خلف الأطلال يشهد قداساً صغيراً يستعيد "كتشنر" عبره ماء الوجه المراق !!؟.... كان القصر المتهدم كئيباً، موحشاً وقف الغزاة طويلاً حول الموضع الذي شهد مصرع "غردون باشا" * * * عثرت قدم "حكيم" على إحدى الهياكل البشرية !!؟.... ندت عنه صرحة مكتومة كاد سره يفتضح !!؟.... تقدم الى الخلف بضع خطوات تولى " كتشنر " بنفسه رفع العلم البريطاني ....... ظل الشريك تابعاً !!؟؟.... كان الظاهر ثنائياً والفعل فردياً إستبطن "حكيم " الموقف قرأ ما خلف السطور كان التأفف والإستعلاء مهيمناً يرفرف العلمان يرمزان لشريكين نقيضين !!؟.... يتعالى أحدهما يتدانى الآخر تفقد الشراكة دلالتها!!!؟..... تنعدم الندية تحت مظلة الترميز !!؟... تنطلي الأكذوبة يمر المظهر الخادع يختتم المشهد بالصلاة التذكارية تتمتم الشفاه مترحمة على روح الجنرال الصريع !!؟..... يستعيد " كتشنر " مأساة " غردون " يستشعر ما جنته يداه يخبو سراعاً الشعور بالذنب يطفو طاغياً الصلف الإنجليزي يغسل خطيئته بنصر مؤزر يمحو عار الهزيمة بإنتقام باهظ تطلق الباخرة الحربية مدافعها يتردد صداها بين خرائب المدينة يغيب الأفق شمس يوم طويل يرهص بإنقضاء قرن مثخن بالجراح لم تشهد الأرض السمراء رديفاً لمجرى دمائه !!؟.... * * * أطل " حكيم " من شرفة فندق الهيلتون يتملى يتأمل يستقرئ يستحضر يستعيد أحداثاً دونها " شقير " نسخها كاتب الشونة أرخ لها " مكي شبيكة " رصدها " ضرار صالح ضرار " أسقط بصره صوب البسيطة تراءت له مخايل الماضي !!؟.... أرض سهلية شجيرات شوكية متفرقة تربة خصيبة خدد وجهها تشققت تركت جرداء على إثر إنحسار فيضان النيل الغامر أعشاب سلبت خضرتها تيبست صارت هشيماً سوام ترعى هنا وهناك عشش قطاطي رواكيب تتناثر متباعدة تتقارب في معظم الأحوال تتوسطها" قبة "بيضاء تتعالى هامتها تضج بالحياة ترتفع أصوات قاطنيها تتخافت يتناغم هدير الشيخ مع صدى أصوات حيرانه المتداخلة يؤسس لنشؤ أثر لاحق !!؟... تنتفخ قشرة الأرض تتفتق تخرج نبتة تتبرعم تينع تشب بسوقها عن الطوق تتطاول تتفرع تفرد ظلالها الوريفة تغطي لسان مقرن النيلين يتعهدها " أرباب العقائد " بالتلاوة يلتف حوله الحيران بعيد عبوره للنيل الأزرق أقام أرباب العقائد في الجزيرة الصغيرة ردحاً من الزمن خلف أثراً عميقاً في جزيرة "توتي" أطلق الحيران على "قبة "شيخهم الكائنة في الضفة الأخرى للنيل الأزرق " خرتوم توتي " * * * يصطرع الزمان مع المكان يتنازعان يغيب الأول الثاني يزيح التاريخ الجغرافيا يطمس معالم القرية الصغيرة تسقط رآية " أرباب العقائد " عن أيدي آخر حفدته * * * يسترد " حكيم " وعيه لماماً !؟؟.... يتلمس برؤية مزدوجة ما كان وما هو كائن !!؟.... يمشي في شوارع الخرطوم تجوس قدماه تلوصان !!؟..... تفقدان بوصلتيهما يتداخل صدى وقعهما ينبهم عليه الأمر لا يعي أتطرقان شارع الخديوي أم شارع الجامعة !؟؟.... شارع " فيكتوريا " أم شارع القصر !؟؟.... ميدان عباس أم الأممالمتحدة ؟؟!... تساقط الذاكرة المثقوبة تقسيمات " كتشنر" لتلك الشوارع تتراءى له خطوط العلم البريطاني مرسوماً على أرض المدينة تأكيداً لخيلاء سطوة الغازي تضخيماً لفوقية الأمبراطورية العظمى على كل البلاد والعباد تمريراً لطغيان الزهو الفيكتوري الرامي لمحو الطابع القومي لحاضرة السودان الناشئة تتبلور أمام ناظريه التخطيطات الحديثة التي حاولت طمس خصوصية السمات القومية للبلاد يحاول عبثاً إستعادة الطابع القومي السليب وإعادة إنتاجه مجدداً * * * يسكن الليل يهدهد " حكيم " السكون يستعصي عليه الكرى يخرج الى الشوارع الخالية يدير محرك السيارة يئز يهدر تنساب السيارة كالضوء !!؟.... تلتف حول حديقة "القرشي" تنفذ عبر كوبري "المسلمية" تندفع دون عوائق يتوقف بها بجوار معمل "إستاك" !!؟.... يلقى نظرة على مستشفى الذرة تتشامخ خلفه محطة السكة الحديد تياسره كليتا الطب والصيدلة يغادر بطاء. يستهويه مشهد ميدان " أبوجنزير" الخاوي !!؟.... ييامنه نادي ناصر الثقافي الموءود ترتفع قبله أسوار سينما " كولزيوم" الجريحة !!؟.... يواصل السير المتقطع على شارع القصر تعترضه لافتة كتب عليها بحروف لاتينية شارع " فيكتوريا" يجتاحها يزيحها كإزاحة تمثال " غردون" عن واجهة الحكمدارية تعترض طريقه ثانية يغضب يثور يضغط على دواسة البنزين تندفع كتلة الحديد تنحرف تكاد تصطدم ببوابة حديقة الشهداء ينقذه كابح السيارة الضاغط بقوة يتراجع للخلف يواصل في إتجاه شارع النيل يركن سيارته بجوار وزارة الداخلية يترجل يخطو صوب كوبري النيل الأزرق يستدير بغتة الى الإتجاه المعاكس يتنازعه إتجاهان يتيامن أم يتياسر ؟؟!... يحسم أمره .... يتوسط كلا الإتجاهين يقف على البعد يتأمل جزيرة " توتي" تتراءى له مراكب " المحس" القادمة من الشمال ترسو على شواطئ الجزيرة البكر تفرغ أجوافها تعود آيبة تكرر فعل الشحن والإفراغ تتبدى ل " حكيم " صورة مماثلة نزوح خليط من الأقوام الى الخرطوم الكبرى تتشكل حاضرة البلاد المثلثة تنصهر الأعراق تتوالد ترتسم على مواليدهم سمات الخلاسيين يتكاثرون مزيج متباين لغات لهجات رطانات ديانات ثقافات تتلون البشرات تتعدد تتدرج من الأسود الحالك الى الأبيض المشرب بحمرة نحاسية تتوسطها الزرقة والخضرة والصفرة الحنطية !!؟؟؟..... ثمة أعراف صارمة تحجر ذوبان الذات في الآخر السوداني يندر كسرها حين تحققها تتخلق النساء الخلاسيات يتهجن الرجال تنشأ إشكالية العلاقة بين الأعراق تطفو الإثنيات تصطرع يتساءل " حكيم " عن الهوية يستبطن التراث يستنطقه يعوقه التحيز العرقي يصدمه التعصب الديني يلوذ بالثقافي يصطحب روح التسامح يبني صرحاً من الأماني يتهدم على عتبة الإعتسار يرتد ينحسر يلوص يكافح الإنتكاس يستعدي الذاكرة يستدعي شرخ الشباب إندفاعه عنفوانه إشتطاطه ألوانه الإنحيازية الأبيص بإشراقه الأسود بسطوته ثنائية الأضداد طغيانها هالة الأيدلوجية قداستها الخطوة الأولى رهبة التجريب أهوالها !!؟.... * * * ولج " حكيم" مداخل الخرطوم صبياً كان ذلك عبر قطار الإكسبريس القادم من حلفا وطأت أقدامه رصيف محطة السكة حديد مساء إختزل بخلفية مسبقة مخايل الإنبهار مشى في شوارع الخرطوم ثابت الجنان مفتوناً بحصانته يقصي الرمادي لحياديته بحجب بصره عن لافتات الإعلانات المزغللة !!؟؟..... يسير هوناً في شوارع العمارات ينمي الحقد الطبقي !!!؟؟.... يفتح " حكيم" عينيه على سعتهما دهشة يتساءل ؟..... يدير محرك سيارته يئز يهدر يمزق غشاء السكون البهيم ينطلق عائداً تختزل سرعة الحركة معالم المدينة تصدمه الفوارق الطبقية الشاسعة يقرع أناه العليا يطبق عينيه على رؤية مغايرة !!؟.... فيصل مصطفى [email protected]