* (حين تولد روح إنسان في هذا البلد فإنهم يلقون عليها الشباك ليمنعوها من التحليق). - جيمس جويس. صورة الفنان في شبابه ص226. .. إن نظرة سريعة إلى الواقع السوداني المعاصر، ومحاولة إلقاء الضوء على جوانبه الاجتماعية والثقافية، والسياسية والاقتصادية، تشير إلى أن هناك أزمة مريرة يعاني منها الشعب، وإن هناك مستنقعاً من الجهل والتخلف، يتخبط فيه، يخال من ينظر ويراقب أنه من المحال الخروج منه، أو النجاة من ظلماته وأوحاله، لا سيما وإن المواطن في بلادنا بات على علم بما تنعم به الدول المتمدنة من تقدم وازدهار، وحرية ورخاء، على الرغم من الأزمة الاقتصادية التي تمر بها. إن الأزمة التي يعيشها المجتمع السوداني تحول دون الوصول إلى القرارات الصعبة في مواجهة هذا الواقع، ودفع عجلة التغيير للخلاص، والعمل بأسس الحضارة الحديثة ومقوماتها، ولا يكون هذا إلا بالخروج من حالة الاغتراب عن العصر والزمن، وخلع عباءة التخلف والخوف والجمود، وارتداء حلة الحداثة العلمية والأدبية، والاجتماعية والاقتصادية، والفلسفية، والتسلح بثقافة التغيير المطرز بقيم النبالة والانتماء السوداني الأصيل، والمنقاة في الآن نفسه من الفكر الخرافي والغيبي، ومن قيم التخلف والشعوذة والتزمت والتعصب الديني، والدين من هذا كله براء. ويكاد لا يخفى على أحد أن الأصوات التي ترتفع موجهة تهمة القبح والشر والوحشية على عصرنا، وتلك التي توجه تهمة التفاهة والسوء له، نسيت هذه الأصوات أن الذي فرض هذا القبح وهذه الوحشية وهذه التفاهة هو الإنسان ذاته، وان الثقافة التي تطغى على العصر هي التي فرضت هذه المساوئ، والثقافة المنتشرة هي المسؤولة أولاً وآخراً عن هذا القبح وهذه الوحشية، وعن الكثير من الكوارث السياسية والاقتصادية التي تقض مضجع المجتمع السوداني. وان كان ثمة تغيير يطمح إليه المجتمع السوداني، فيجب أن يحصل قبل كل شيء في الثقافة، لأنها منطلق أي حراك سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي، ولهذا تسعي القوى المحافظة على تهميش الثقافة والحفاظ على التقاليد الموروثة بعجرها وبجرها، لتحافظ على مكتسباتها ومصالحها، والحيلولة دون أي تغيير في الثقافة والواقع، حيث يبقى الركود سيد الموقف، والجمود والثبات، عنوان المرحلة السودانية الراهنة، وحتى يصبح المواطن السوداني العادي أو المتلقي في أحسن الأحوال ضحية الدعاية الهوجاء الخادعة، وتتحول الجماهير إلى جوقة في عرس مزيف، تضيع فيه أصوات المبدعين والمثقفين في ضجيج الدفوف والمزامير والطبول والهرج والمرج... لاسيما وان آلة الإعلام الفضائية التي تجتاح السمع والبصر والأفيدة والعقول لمختلف الشرائح العمرية، تبث فيها من سمومها ما يجعلها في غيبوبة وخدر، وتبعدها عن القضايا المصيرية، محلقة بها في غياهب التخلف وجحيم الجسد والفكر الغيبي، والانحطاط الخلقي، ومقصية الأجيال الصاعدة عن القضايا المصيرية، والوطنية والإنسانية، ومرغبة إياه بالسكوت على السائد والانسجام مع المألوف المذل المهين، ومحاولة في الآن نفسه أن توصد أبواب الحرية في وجهها، حرية الفكر والعقيدة، واحترام الآخر المختلف، والدفاع عن رأيه لاحتمال صوابه من جهة، وليسمع رأيها ويقتنع به أن كانت على حق من جهة ثانية.... إن الإنسان عندما يقبل بما يتعرض له من ظلم واضطهاد، ويستسلم لضعفه أمام جبروت ظالميه وآلتهم الإعلامية والثقافية الطاغية ويتركهم يتحكمون بجسده وعقله ومشاعره وغرائزه، يتحول إلى سلعة في أيديهم، يتاجرون به ويقامرون، ويحققون أهدافهم القذرة، وغاياتهم الخسيسة التي لا تخفى وحشيتها وبدائيتها وهمجيتها على احد.. وفي هذه الحالة يصبح المجتمع أمام معادلة ذات حدين، كما يقول نيتشه (هناك أقوياء مسيطرون، وضعفاء مسيطر عليهم، طيور كاسرة وحملان، بينهم علاقات مادية، غاب عنها كل فهم أخلاقي). لا شك، بعد كل ما ذكرنا، أن الرفض والتمرد على السائد والمألوف يتحول إلى رغبة ولذة تتحقق من خلال الإرادة والقوة، لتحقيق الكينونة، ولا يحصل هذا إلا من خلال التزود بثقافة متنوعة جادة يستطيع من يتزود بها أن يواجه عصره بأسئلة الباحث عن خلاصه وقيمه الضائعة، فالمثقف لا يكتفي بالعرض والتصوير، بل يسعي إلى التغيير وطرح البديل، وتقديم الرؤية المغايرة، وطرح الأسئلة دون خوف، أسئلة تدفع للتغيير والبحث عن الأجوبة والحقيقة، وهذا ما عبر عنه الشاعر يوسف الخال (أحد رواد الحداثة الشعرية حيث يقول: أخائف أنت؟/ إذن تعال/ نحول الخوف إلى سؤال/ ونبدأ البحث عن الجواب. كيف يستطيع المثقف السوداني أن يجد الجواب في غمرة الثقافة السودانية الموروثة والتي يسيطر عليها الهوس الديني التراثي التقليدي الذي يسبح في فضاء الغيبيات والأساطير والخرافات وحكايا الجان والبعاتي والعفاريت السود والزرق، وما جادت به تهويمات المشعوذين والمهووسين جنسياً ودينياً وتراثياً والدين والتراث والحب المقدس منهم براء. يقول المفكر والفيلسوف زكي نجيب محمود : (شاهد الناس من حولك، تدرك من سلوكهم أي ثقافة يعيشون.. إننا نعيش ثقافتنا في كل ما نراه من تفصيلات..) من هذا القول ينبع السؤال: هل استطاع المثقفون والمفكرون في السودان، على اختلاف اتجاهاتهم وميولهم ومذاهبهم، وما أنتجوه من فكر أن يزرعوا قيماً معينة تظهر في سلوك المواطن السوداني الذي هو محل كل خطاب يطرحه المثقف المنشغل ب(إشكاليات) العصر وقضاياه؟! الإجابة عن هذا السؤال، هي المحك في مدى نجاح الخطاب الثقافي السوداني المعاصر من عدمه، والجواب يجب أن يأتي من خلال ندوات ودراسات ومناقشات، لأنه شائك ومعقد. والإنسان السوداني ما زال يتخبط في أزمات عميقة وإحباطات مريرة على الصعد كافة.. تفكيره لا يزال أسير طروحات وأسئلة منذ بداية مجئ نظام (الإنقاذ) دون أن يجد أجوبة حاسمة عليها. وضع غريب يعيشه الإنسان السوداني بين شعوب العالم..أدت إلى انفصال جزء عزيز عليه من وطنه.. لم تستطع الثقافة أن تكوّن مرجعية ثابتة توصل للإنساني السوداني نظرته إلى المجتمع والحياة والوطن والمستقبل، وسبب ذلك يعود إلى النخبة المثقفة كانت وما زالت منعزلة عن حركة المجتمع ذاته، وكانت أفكارهم وتياراتهم حكراً عليهم، مع بعض شرائح من الطبقة الاجتماعية التي ينتمون إليها. المتابع للخطاب الفكري السوداني، على اختلاف تياراته، يلاحظ أن الأزمة هي أزمة مرجعية في المقام الأول، فليس هناك خيط واحد ينظّم هذه التيارات إلا خيط الأزمة والإشكالية، أو الاتفاق على أن هناك أزمة ثقافية. غير متفق على أسبابها، وسواء تحدثنا عن النخب الثقافية والفكرية التقليدية، أو تلك الحديثة، فالأمر واحد تقريباً، فالأوائل (التقليديون) يشيدون تماثيل لثقافة نخبوية ماضوية لا علاقة لها بمتغيرات الحاضر، والأواخر (التحديثيون) يشيدون تماثيل غالباً ما تكون مأخوذة من خارج المكان، ولا علاقة لها بمتغيرات المكان الخاص، وهنا يصبح المجتمع عرضة (لإيديولوجيات) تحطم الثقافة والمجتمع معاً، وهذا يدفع إلى إعادة التفكير في مسلمات الثقافة السودانية المعاصرة، ومناهج الوصول إلى مثل هذه المسلمات وهي مسلمات وآليات فكرّية، تحكم العقل السوداني المعاصر في إدراكه للمحيط من حوله، وتتحكم في نوعية وفاعلية المنتج من فكر، ويبقى العقل الشعبي، بكل أسف، خارج دائرة الفكر والثقافة.. للخروج من هذا المأزق، مأزق النخب الثقافية وآليات إنتاجها لا بد من معرفة المثقف لموقعه في المجتمع، بل معرفة المشتغل بالهمّ العام، والثقافة جزء منه، دون فرضيات وأوهام فالمشتغل بالهمّ الثقافي هو جزء من المجتمع، وليس وصيّاً عليه، له دور اجتماعي نابع من كينونته، ودوره الحقيقي، كما هو مقرر في الواقع، وليس بناء على افتراضات ذاتية، وأعتقد أن ذلك يشكّل الخطوة الأولى تجاه نفي تلك الآليات الفكرية، المنتجة لفكر نخبوي مكتّفِ بذاته ولا علاقة له بما يجري حولنا، وهذا لن يتم إلا عندما يقوم المثقف بتحرير نفسه قبل تحرير الآخرين. لكن بعد كل هذه يبقى المثقف الحقيقي الواعي لهموم أمته وآلامها، وحده القادر على تحويل هذه الآلام والأحزان، وتحويل هذا الواقع المتردي إلى أسئلة تسهل الإجابة عليها والبحث عن حلول لها، وهذه هي مهمة المثقفين غرباً وشرقاً، وهي نفسها مهمة المبدعين أيضاً. حيث يمتطي هؤلاء وأولئك حصان البوح ويروضوا العقول ويطلقوا الألسنة والأسئلة من عقالها، ويعتقوا اللغة من أسرها، لتمعن فضحاً وتشريحاً لقوى الشر والبغي والاستبداد والفساد، على الرغم من حرص هؤلاء جميعاً تمظهرهم بالتدين و بالحسن والجمال (فالشرير هو ذلك الجميل الذي يسكن في الجوار ولا يعتبر نفسه شريراً) إن المثقف الحقيقي هو الذي لا يقبل المنطق الزائغ والأقوال المهترئة البالية، واللغة الخشبية المراوغة، وهو الذي يتمرد على كرسي الطاعة الذي ولد معنا، فتحولنا إلى أسرى له، لا نستطيع منه فكاكا.. ولا يعني قولي هذا التنكر للماضي والتراث لأننا لا نستطيع أن نحاور الحاضر ونبني للمستقبل إذا لم نستوعب تراثنا وتراث البشرية بشكل جيد، ومن لا يتمكن من لغته الموروثة ويجدد في استخدامه لها، لا يستطيع أن يواجه حاضره وينشئ حداثته، ونحن لا نستطيع أن نخرج من دائرة التقليد إلا إذا حولنا الخبرات المكتسبة من الماضي إلى خبرات خاصة وقد أضفنا إليها ما يناسب عصرنا ويساير ركب الحضارة الحديثة، بعيداً عن دائرة التقليد، والوصول إلى أشكال جديدة تسهم في إغناء مسيرة التقدم في محيطنا، ينقلها إلى الأجيال اللاحقة، تتغذى منها ويرتوي من مائها الوطن كله وتضيف إلى مخزون الثقافة ما هو جدير بالبقاء، وما هو قادر على دفع عجلة التقدم والازدهار إلى الأمام. إن رهان الثقافة خيار لا بد منه أن أردنا لمجتمعنا النهوض، وهذا الرهان ليس سهلاً لان الثقافة المضادة، ثقافة التدين الكاذب، ثقافة الاستهلاك، والانحراف، ثقافة السلطة المستبدة، التي سادت طيلة عقدين ونيف من السنوات، ثقافة السكوت عن الفساد والعنصرية البغيضة التي ساهمت في تقسيم الوطن الواحد، والتي تحول دون انتشار ثقافة التسامح والتعايش والتماذج.. هذا كله حتم ولادة الصراع بين رافعي راية الحرية وثقافة الخير والحب والجمال والأحلام المضاءة بعصافير الحرية وقناديل الكرامة، وبين كرادلة التقاليد وأصنام الجمود والتخلف من أزلام الكيزان، والقياصرة الجدد الذين يدمنون فرقعة السياط على أولئك الخارجين على السائد والمنتهكين لحرمة الموروث، الكاشفين لأمرهم، الفاضحين لسرهم. ويشهرون السيف في وجه أرباب الكلمة والمثقفين الذين يتعبدون في محراب الحرية لا يأبهون بتهديد أو وعيد ويرفضون الانصياع والانحناء، خشية ألا يستطيعوا النهوض ثانية، فيخسر الوطن ضميره، والوحي رسوله وبيانه. أقول قولي هذا وأستغفر الوطن لي ولكم. فيا فوز المستغفرين! [email protected] - - - - - - - - - - - - - - - - - تم إضافة المرفق التالي : abu nabaa.jpg