فى العام 2001 كان مقررا لنا الذهاب فى رحلة طبية الى منطقة فى ريفي ولاية الجزيرة وذلك كجزء من برنامج دراسي يسمى بكورس الإقامة الريفية المقرر لطلاب كلية الطب بجامعة الجزيرة .. لا تبعد المنطقة التى تقع فى شمال ولاية الجزيرة عن الخرطوم سوى كيلومترات معدودة ,, وعند وصولنا المرهق إلى المنطقة صدمنا من شدة الفقر هناك ,, لا توجد كهرباء وبالكاد توجد مياة صالحة للشرب ,, البيوت الطينية فى غاية البساطة والتقشف , ورغم فقرهم الشديد فإن الناس قد كانوا فى غاية الكرم والترحيب ,, تسكن المنطقة عدة قبائل من عرب الرفاعة والجعليين والحسانية وغيرهم .. اعتذرت بعض القرى عن استقبال بعض الأتيام وذلك لبؤس حالة أصحابها وعدم مقدرتهم على إعاشة الطلاب واضطرت بذلك بعض الفرق للتحويل إلى مناطق أخرى ,, ورغم هذا الحال البائس يمكنك رؤية السيارات الحكومية الفاخرة تجوب القرى والشوارع لجمع الزكاة والضرائب , وقد تعجبت كيف تجمع زكاة من مثل هؤلاء الفقراء ولمن تذهب ؟؟؟ الإنسان هناك مقهور بحق ,, قهرته الطبيعة وقهره النظام وقهره الفقر ,, عملنا مااستطعنا من أجل تحسين الحالة الصحية للناس وأقمنا أيام علاجية ووفرنا للمرضى أدوية مجانية تبرعت بها جامعة الجزيرة بدعم من منظمة الصحة العالمية وبعض الخيرين ,, توجد قرى كاملة مصابة بالعمى الليلي وفقر الدم والبلهارسيا ويمكنك رؤية علامات سوء التغذية على أجساد الأطفال الهزيلة ,, كانت موائد الطعام فى غاية البساطة ومهما اجتهد أعيان القرية فى إعدادها فإنها كنت تأتي بأقل من المتوقع ,, قمنا بعمل دراسات ميدانية لمشاكل تلك القرى التى لاحصر لها ,, كانت هناك مشاكل فى كل المجالات , فى الصحة , التعليم والمدارس , مياة الشرب , الطرق , الكهرباء ,, أجرينا دراساتنا واقترحنا حلولا لها ووعدنا بتقديمها إلى المسؤولين ,, نظر لنا الجميع كمخلصين جئناهم من السماء وفى حقيقة الأمر كنا طلابا لا حيلة لنا ولا قوة ,, ولم تجد تقاريرنا تلك سوى أرفف المسؤولين وربما سلال مهملاتهم ,, عانى بعض أبناء المدن والمغتربين من الطلاب فى تلك البيئة البدائية و القاسية وكانت تجربة مأساوية لهم وكانت الأغذية المعلبة ومياة الصحة حلا مؤقتا لمحنتهم ,, لقد تكررت على نظري مشاهد الفقر الشديد تلك فى مختلف بقاع السودان وأنا أجوبها فى رحلات عمل ,, فى الجزيرة و سنار والقضارف وكسلا وبورتسودان وشمال كردفان فى حمرة الوز وجبرة الشيخ وغبيش والنهود وفى بابنوسة والمجلد .. فى تلك الفترة قامت الحكومة المتأسلمة باستضافة مؤتمر للقادة العرب وآخر للأفارقة واشترت الحكومة يختا رئاسيا ضخما رأيناه محمولا فى شارع مدني – الخرطوم وقد أزيلت من أجله نقاط الجبايات على الشارع وتسائلنا أليس الأولى بهذه الأموال فقراء السودان ومهمشيهم ؟؟!! وعندما فاز المنتخب المصري قام الرئيس وبكرم طائي يحسد عليه بإهداء أفراد المنتخب 35 سيارة فاخرة وجديدة الطراز ,, وتسائلنا أليس فقراء المدن والقرى السودانية أولى بها ؟؟!! أليس الفقراء أولى بأموال الفلل الرئاسية التي شيدت لاستضافة زعماء لأيام معدودة !! أليس الفقراء فى السودان أولى بأموال الأبقار التى ذهبت دعما للإخوان المسلمين فى مصر !! لقد قال أحد المذيعين المصريين ساخرا ( أهو الفضل بقينا نستقبل معونات من السودان ) ,, !! أليس الفقراء أولى بأموال البترول التى ذهبت قصورا وشاليهات وسيارات فارهات وعمارات وأرصدة بالمليارات لبعض القطط السمان من قادة النظام !!؟؟ يحكمنا نظام لايتورع فى تضييع الأموال العامة فى شراء الأسلحة والطائرات يقصف بها المواطنين العزل فى أطراف السودان ,, يتهم أهل الوسط بتأييد النظام وهم فى حقيقة الأمر أحد ضحاياه ,, إن القهر والغبن يملأ نفوس أبناء الوطن وهم يرون بلادهم وقد اختطفتها عصابة لاهم لها سوى البقاء والإغتناء على حساب المهمشين والفقراء ,, عصابة ارتوت من دماء الأطراف وشبعت من خيرات السودان كله ,, هؤلاء المهمشين يهربون من واقعهم البائس إلى الخارج تحملهم مراكب السمبك المهترئة وسيارات التهريب ,, يموتون فتلقى جثثهم فى المجهول لا يعرف عن مصيرهم شئ ,, إنه قدر السودان البائس الذي لم ينعتق منه بعد ,, يخطئ من يعتقد أن الصراع فى السودان هو صراع أطراف مع المركز بل هو صراع الفقراء والمسحوقين مع الجشع والطمع والإستغلال وتجارة الدين ,, الطمع والجشع والإنتهازية الذى تقوده الطائفية السياسية والمتأسلمين عديمي الضمير والأخلاق ,, ولا غرابة وهم يتحالفون الآن فى حكومة واحدة ,, إنه تحالف الطفيليين ضد المسحوقين ,, إن البساطة والعاطفة الدينية فى عامة الشعب تستغل وعلى أكمل وجه من أجل تركيز الثروات فى أيدي فئات تعمل كالديدان فى أمعاء الوطن , تمتص خيراته وموارده ,, لقد حاول النظام إقناعنا فى المدارس ومعسكرات الخدمة الإلزامية بأن الصراع هو بين قوى التآمر الصليبية والصهيونية وبين الإسلام , ولكن الواقع علمنا أن الصراع هو بين المسحوقين والمهمشين والفقراء وبين الجشع والطمع والإستغلال ,, الواقع السوداني الكالح والممحون هو من علمنا ذلك ,, هذا الإستغلال وظف ومنذ الإستقلال عن طريق تأجيج العواطف الوطنية والدينية لدى أبناء الشعب ,, واستفادت من هذا الإستغلال أسر الطوائف المسيسة وأحزابها ومن شاركهم من المثقفين , وقد حسدهم العسكر فأتوا على ظهور الدبابات كي ينهشوا في ما تبقى من جسد هذا الوطن سئ الحظ ,, إن الإستغلال وانعدام الضمير فى السودان مرض مستعصي ومزمن وسرطان ينخر فى جسد الوطن الواهن ,, إنه مرض لابد له من عمليات استئصال شاملة وجذرية ,, لقد عمل الساسة غير الوطنيين كأطباء مأجورين يحقنون جسد الشعب بالمواد المخدرة والقاتلة حتى لا يستيقظ ويطالب بحقه ,, هذه بالضبط صورة الوطن حاليا ,, مريض عاجز تنتفض بعض أطرافه ,, ومن وحي الظلم الواقع على بسطاء الأمة نكتب : ضدانِ هما ياصاحْ.. الدمعةُ فى الأحداقْ.. والبسمةُ فى الشفتينْ.. وأراكَ حملت الإثنين .. فى ذاتِ الوجه الوضاحْ.. .. ضدانِ هما فى الناسْ.. الحبُ ونبضُ الأحساسْ.. والخوفُ بِسجنِ الحراسْ.. وأرى فى العتمةِ إنسان.. أرهقُه ضيقُ الأنفاسْ.. .. إثنانِ هما ضدان.. الفقرُ بِدارِ الفُقراء.. والمالُ بقصرِ البُدناء.. والشعبُ صبورٌ ياصاح.. والله غنىٌ معطاء.. .. سيانِ هما سيانْ.. السِجنُ وراءَ القُضبانْ.. والنُصحُ لِشخصِ السُلطانْ.. الأملُ الخائبُ إدمان.. والأرضُ هوامشُ أوطانْ.. .... ضدانِ هما ياصاحْ.. أن تحيا تَبغِى الافراحْ.. أو تَشْرَبَ مُرَ الأتراحْ.. وتساير مُوسَ الجراحْ.. فى ورم الحلق المجتاحْ.. .. ياطيرَ الوادى الصداحْ.. إهدينى بعض الألحانْ.. ياعبقَ الوردِ المنداحْ.. من فضلك زهرةُ ريحانْ.. ياماءَ النيلِ الرقراقْ.. ناولنى موجَ الشطآنْ.. فاليأسُ يغطى الأفراحْ.. يقتاتُ دماى ويجتاحْ.. .. ضدانِ هما ياصاح.. أن نرفُضَ ذُلَ الأزمان.. أن نأسى لِجراحِ الانسان.. أو نفنى فى الوقتِ ونرتاحْ.. د. مشعل الطيب الشيخ .. Mishal.altaib@facebook